هل الكتابة مسؤولية؟

> * نجيب مبارك

>
من يعرف قيمة الكتابة «الحقيقيّة» لن يتأخّر في الإجابة بأنّها مسؤولية، أوّلاً وأخيراً، ولا يمكن أن تكون ترفاً فكرياً، في أيّ حال من الأحوال. لا يمكنها أن تكون ترفاً لأنها ببساطة لا تندرج في خانة الكماليات الحياتية، بمعناها الواسع، لسببٍ بديهيّ وهو أنّ الكتابة لا تمنح بالضرورة مالاً ولا جاهاً ولا سلطة لصاحبها، مهما كان منتجاً ومبدعاً وألمعياً، مثلما قد تمنحه إيّاها مهنة أو «هواية» أخرى، بل على العكس، قد نجد أنبغ وأعظم الكتّاب في التاريخ عاشوا حياة لا تخلو من حرمان وفقر وبؤس، بينما خلّدت فقط أعمالهم من بعدهم، أو اغتنى من ورائها وارثو حقوقهم من أبناء وأحفاد. كما أنّ القيمة الرمزية للكتابة والمكانة الاعتبارية للكاتب، أو حتّى «الشهرة» بين الأحياء، التي يطمح إليها البعض بكلّ ما يملك من طاقة وجهد، تبقى مسألة نسبيّة جدّاً ومرهونة بشروط عدّة، ولا يمكن مقارنتها مثلاً بتلك «النجومية» الّتي يحقّقها بسهولة نجوم السينما والغناء أو لاعبو كرة القدم، على سبيل المثال.

يجب، في البداية، أن لا نخلط بين مفهوم المسؤولية ومفهوم «الالتزام» الّذي ساد عقوداً طويلة خلال القرن الماضي، وكان وبالاً على الإبداع  الأدبي في كثير من الأحيان. الكتابة مسؤولية تعني أن يكون الكاتب، بصفته إنساناً حرّاً وفرداً مستقلّاً عن الجموع، مسؤولاً فقط أمام نفسه وحياته ونصّه، وليس أمام أيّ شيء آخر، ذلك لأنّ كلّ ما يقوم به الكاتب قبل وأثناء وبعد عملية «الكتابة»، خصوصاً الأدبية والإبداعية، لا يخرج عن هذا الثالوث: الذّات والحياة والنصّ.

فالكتابة مسؤولية، أوّلاً، لكونها تعبيراً عن الذات في نهاية المطاف، وهي تبدأ اختياراً في لحظة ما من حياة الكاتب ثمّ سرعان ما تصير مع الوقت والتجربة شكلاً من أشكال «الواجب»، بكلّ ما تحمل كلمة واجب من معنى.  واجبٌ لا مناصّ من تأديته مهما كانت الظروف والإكراهات. طبعاً، نتحدّث هنا عن الكتّاب «الحقيقيّين»، وليس عن بعض «منتحلي الصفة» و «المدّعين» و»مسوّدي البياض»، عن أولئك الذّين مسّتهم  جذوة الكتابة في العمق واكتووا بنارها طويلاً، والّذين اتّخذوا منها طريقاً للتحرّر والرقيّ والإبداع الإنساني، لأنّه ربّما الطريق الوحيد الّذي به يحقّق الإنسان رسالته الأسمى، على أكمل وجه، في هذه الحياة الفانية.

ثانياً، الكتابة مسؤولية أمام الحياة لأنّ الكاتب مكلّف في إبداعه أن يعمّق فهمه لحياته ومجتمعه وعصره أوّلاً، وبالتالي يعمّق فهمنا للحياة بشكل عام، وعليه أن يساهم ولو بجزء ضئيل في محاولة فهم لغز الوجود العظيم، ذلك لأنّ كلّ كتابة لا تضع نصب عينيها مقاربة هذا السؤال لا يعوّل عليها. ثمّ إنّ الكاتب الذي لا يبتغي من كتابته سوى اجترار ما قيل أو إعادة إنتاج ما كتبه الأسلاف أو تابعيهم ولو كانوا معاصرين، هو كاتب «معطّل» ولو أصدر مئات الكتب، كاتب تعطّلت ساعة إبداعه ورحلته في الحياة وتعطّل معها كلّ إبداع محتمل. هكذا، تصير الكتابة فاعلة وليست «مفتعلة»، خلّاقة وليست «مختلَقة»، أصيلة وليست «مزيّفة»، تنبع من صميم حياة صاحبها لتصبّ في عمق الوجود الإنساني، بكلّ أسئلته الحارقة.  وكلّ كتابة تحيد عن هذا الهدف تبقى تتخبّط فوق السطح، لا قيمة إبداعية وتاريخية لها، ومآلها النسيان والزوال مهما طال الزمان.

ثالثاً، الكتابة مسؤولية أمام النصّ أيضاً، وهي في نظري أعظم المسؤوليات على الإطلاق. كيف يكون الكاتب مسؤولاً أمام نصّه؟ يكون كذلك إذا وفّاه حقّه مبنى ومعنى، لغةً وفكراً، أسلوباً وخيالاً، وأن لا يبخل عليه بكلّ ما تجود به روحه من صدق وأصالة، حيث يكون للشكل والصياغة المكانة نفسها للمعنى والأفكار. لقد وضّح سارتر في كتابه «ما الأدب؟» هذه المسؤولية بالنسبة للكاتب باعتباره فرداً، مدفوعاً ل»الالتزام» بوسائله الخاصّة. ونحن نعرف البقية: جاء رولان بارث، الّذي كان متأثّراً بالوجودية كثيراً، ليطبع فكر سارتر بطابعه الخاصّ، حين دعا في كتابه الشهير «الدرجة صفر من الكتابة» إلى مسؤولية في الشّكل أيضاً وليس في المضامين فحسب.

هكذا، صرنا اليوم نقارب فعل الكتابة، وفق المعنى الّذي تطوّر على يد بارث، بكونه فعلاً ذا بعد جمالي في المقام الأوّل، وليس فعلاً ذا بعد سياسيّ فحسب، وصار الكاتب في اختياره  وتبنّيه لشكل «كتابة» ما، يعلن ضمنيّاً عن وضعيته داخل النظام الاجتماعي، وداخل النظام السياسي، وحتّى داخل النظام الثقافي، ويحدّد موقفه من كل هذه الأنظمة المتداخلة لحظة الكتابة ذاتها، إذ في هذه اللحظة يقرّر الكاتب أن يختار تسويّة أو توافقاً معها، أو يلعب دوره بالكامل في التمرّد والاحتجاج والتجاوز.

في الختام، لا يمكن الحديث عن الكتابة باعتبارها مسؤولية دون الإشارة إلى أنّ لكلّ كاتب الحقّ في ممارسة «مسؤوليته» بالطريقة التي تناسبه، وتعبّر عنه وتعكس شخصيته، شرط أن يكون أفقها الحرية والجمال والإبداع. ذلك لأن كلّ كاتب «حقيقيّ» هو مسؤول بالضّرورة  عن كتابته فقط، وليس عن أيّ شيء آخر خارجها. وربّما تصحّ هنا استعارة قولة جورج أورويل، وإسقاطها على المسؤولية: جميع الكتّاب مسؤولون، لكن بعضهم أكثر مسؤولية من غيرهم.
*نقلا عن موقع ضفة ثالثة​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى