ما يسمى (قصيدة نثر) يغتال الشعر

> د. وليد قصاب

> لم أكثِر من الكتابة عمَّا يسمَّى (قصيدة نثر)؛ وذلك أنِّي كنتُ أحسب أنها بدعة من البدع الكثيرة التي شهدها أدبُنا العربي، ثمَّ اندثرَت كأن لم تكن؛ لأنها كانت بعيدة عن الذائقة العربية الأصيلة.
ولكني وجدتُ أن هذه البدعة قد انتشرَت في الشعر العربيِّ الحديث انتشارًا مريعًا، وهي ماضية - بما يحيط بها من تهويل وتسويق - تتمدَّد على حساب الشِّعر العربيِّ الأصيل، وعلى نسف مفاهيمه وإنجازاته، وعلى اغتيال بهائه.

وقد راح أنصارها - بما مُكِّنوا فيه من شهرة وذيوع - يقدِّمونها بديلًا عن الشعر العربي بموجاته التجديدية المختلفة، ويسفِّهون كلَّ شعرٍ عداها، وراحوا - بعد أن هوَّنوا من شأن الشِّعر، وجرَّدوه من جميع القوانين والأنظمة - يُجرِّئون كلَّ من هبَّ ودبَّ على كتابته، فاقتحم ساحةَ الشعر العربي الحديث مئات بل آلاف من الهاذين المتشاعرين، الذين يكتبون أيَّ كلام، وينشر لهم على أنه قصيدة، وعلى أنه شعر.

لم يعُد للموسيقى - في هذا المسمَّى شعرًا - قيمة، ولم يعد للّغة نفسها قيمة أو قداسة، بل لم يعد للمعاني والدلالات، أو البيان أو التبيين، أو الفصاحة أو البلاغة، لم يعد لشيء من ذلك كلِّه أي شأن يُذكر.
أصبحنا - في أغلب الأحيان - نقرأ كلامًا مرصوفًا بأحرف عربية، لكنه لا يمتُ إلى بيان العربية، أو فصاحتها، أو أعرافها بأية صلة.

كلام يتراكم بعضه فوق بعض، في كلمات مبعثرة متناثرة، من غير منطق، أو ترابط، أو دلالة، أو قواعد نحويَّة، أو ما شاكل ذلك ممَّا هو من جوهر أي كلام ينشُد إبلاغ شيء ما.

وراح النقد يسوِّغ ما أشاعته بعض نماذج هذه البِدعة من الفوضى والعبث، ومن التسطُح الفكريِّ، ومن تشويه اللغة، وتنافر الصور، وتشظي العلاقات اللغوية، والتهويم في متاهات التعقيد والإبهام، والاستغراق المطلق في رموز غريبة غير دالَّة، ومن احتقار كل تراث عربيٍّ أو إسلاميٍّ، وتسفيه لمفهوم الشعر الذي عرفه العرب خلال تاريخهم، والهجوم على الوزن الذي كان الفارق الأساس بين الشعر والنثر، واتهامه بأنه يشوِّه الشعرية؛ حتى سمعنا واحدًا مثل كمال أبو ديب يقول: «يبدو في تاريخ الشعر العربي - بشكل خاص - أن طغيان الانتظام الوزني في الشعر يرافقه انحِسارٌ للصورة الفنية عنه، وكلما خفت طغيان الانتظام الوزني ازداد بروز الصورة الشعرية».

وحتى سمعنا واحدًا آخر من كتَّابها يعزف على وتر أبي ديب، فيقول: «قصيدة النَّثر هي قصيدة وعي وصحو، أمَّا قصيدة الإيقاع فهي قصيدة سُكر ودوخة، لا أستطيع التفكير وأنا أوقِّع ما أقول.. ألم نتعب من الدَّوران والدوخة؟ ألم تضجر الذَّائقة العربية من الإيقاع وسلالته؟ ألم تضجر من الأوزان وسلالتها؟ التفعيلة في طريقها إلى الانزياح، إلى الانقراض، ألا يكفيها هذا الزمن الممتد؟ أنصح شعراءَ الإيقاع بأن يكتبوا المراثي لشهادات قبورهم الموقَّعة...».

وتُقدَّم هذه المفاهيم الشاذَّة وكثير غيرها على أنها (حداثة)، وأمَّا ما عداها فهو رجعية، وتخلف، وسلفية.

أصبحت المدعوَّة (قصيدة النثر) - بما آلت إليه على أيدي متشاعرين لا حصر لهم - انتكاسةً في شعرنا العربيِّ، وهي تنتشر اليوم انتشارًا هائلًا، ولا سيما في ظلِّ الضعف اللغوي والثقافي عند جيل هذه الأيام، وحرصهم على الحصول على الألقاب والشهادات من غير جهد، ولا تعب.

المحرر الأدبي:
ننشر هذا المقال إيمانا مننا بأن لكل شاعر أو أديب أو ناقد رأيه في إطار الحجة والرأي والرأي الآخر الذي تعد صحيفة «الأيام» منبرا له.. وعليه نفسح لأنصار (قصيدة النثر) بياض الصفحة الأدبية للرد عبر إيميل الصحيفة.
[email protected]

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى