القوى «العلمانية» في اليمن.. صراع التأثير والنفوذ

> أشرف الفلاحي

> على وقع الحرب الدائرة في اليمن منذ أربع سنوات، تموج الخارطة السياسية بتفاعلات شديدة التقلب؛ حيث يتصاعد سباق التنافس والنفوذ بين مختلف القوى السياسية، في محاولة للاستئثار أو المشاركة القوية في توجيه هذه التفاعلات، وتحديد نتائجها عبر مختلف الأدوات العسكرية والسياسية.
في مضمار هذا التنافس وبالذات الأدوات والوسائل، أخذت القوى العلمانية بشقيها، الليبرالي واليساري، كبقية القوى الفاعلة في تعزيز قدراتها التنافسية من خلال تحالفات جديدة، بعيدا عن تحالفات ما قبل نشوب الحرب عام 2015، ثم ذهبت نخبها وقواعدها الجماهيرية إلى الحديث عن الدولة المدنية التي ينبغي أن تسود، في سياق ملامحها التي حددها مشروع دستور الدولة الاتحادية، الناتج عن مؤتمر الحوار الوطني الذي اختتم أعماله عام 2014؛ حيث حددت المادة الأولى منه، في سياق توصيفها لشكل الدولة، بأنها «دولة مدنية ديموقراطية».

وفي هذا السياق، يُنظر إلى حزب المؤتمر الشعبي العام، بوصفه تياراً سياسياً ليبرالياً، لكن دوره في تغليب جماعة الحوثيين خلال اجتياحهم العاصمة صنعاء عام 2014م، كشف أنه لا يزال رهين قبضة النزعات المذهبية والقبلية التي تعادي الدولة المدنية، ولم تؤثر فيه مغادرة الكثير من رجال هذه التوجهات صفوف الحزب، وملأ الفراغ الناشئ بعناصر ذات ميول اشتراكية وقومية، لا سيما تلك التي استقطبت خلال العقدين الماضيين، حينما كان رئيس هذا الحزب، علي عبدالله صالح، هو ذاته حاكم البلاد، وكان من الطبيعي أن تجري هذه العملية دون عوائق.

يعاني حزب المؤتمر، في الوقت الراهن، حالة انقسام في قيادته وقواعده، هي الأولى من نوعها منذ تأسيسه عام 1982م؛ حيث تتجاذبه ثلاثة أجنحة، الأول: جناح مؤتمر صنعاء المتحالف مع جماعة الحوثي، والثاني: مشتت بين زعامات تقيم بالقاهرة وأبوظبي، والثالث: الجناح الموالي للرئيس عبدربه منصور هادي، وهو المعادل، عملياً، لجناح صنعاء، وأمام هذا التفكك، يصبح أكبر تيار سياسي يمني، موصوف بالليبرالية، في مهب الريح، ما لم تشهد السنوات القليلة القادمة عملية سياسية تجمع أشتاته الثلاثة، وتخلصه من النزعات الضيقة التي لا تنسجم وقيم الدولة المدنية.

على الصعيد العسكري، يلعب الحزب أدواراً متفاوتة ومتناقضة، قيادية وميدانية، عبر أجنحته الثلاثة. ففي الوقت الذي يقاتل فيه أنصاره في صفوف جماعة الحوثي، نجد أن مؤتمريين كُثر يقاتلون الحوثيين في الجبهات المضادة، ولو لم يكن ذلك ظاهراً في صفوف القوات الخاضعة، مباشرة، لقيادة السلطة الشرعية، إلا أنها تبدو بصورة أوضح في جبهات الساحل الغربي التي تديرها القيادة الإماراتية، وفي صفوف بعض فصائل المقاومة الشعبية بمحافظة تعز.

أما الأحزاب اليسارية والقومية فتتقارب في المواقف، والرؤى، والحضور على الأرض. فالحزب الاشتراكي اليمني الذي حكم الجنوب بين عامي (1978-1990)، والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، الذي كان لصيقاً بنظام الحكم في الشمال، في عهد الرئيس إبراهيم الحمدي (1974-1977)، كلاهما يمثلان قوتين فاعلتين في المشهد السياسي اليمني الراهن ويلعبان أدوراً متناغمة في طرفي الحرب كمحصلة لانقسامهما السياسي، إلا أن دور كل منهما يبرز بقوة في الطرف المناوئ للحوثيين.

وقد كثف الحزب الاشتراكي جهوده في المحافظات الجنوبية، بوصفها مناطق نشأته وترعرعه، ومع ذلك يحاول مثل بقية القوى السياسية، التموضع حيث يتاح له ذلك في بقية المحافظات، على أمل استعادة ما فقده أو ما فاته من استحقاقات، ومن خلال التربع على أنقاض الحراك الجنوبي الذي أوهنته الانقسامات، وغياب الرؤية الموحدة تجاه خياراته السياسية، وليس ذلك سوى استعادة طوعية لعناصره التي انسلت من كيانه خلال فترة تشظيه، التي خلفتها حرب صيف 1994؛ حيث واجه الكثير من التحديات التي أفقدته جانباً من شعبيته وقوته السياسية، جنوباً وشمالاً، على حد سواء.

أما التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، فقد ركز جهوده في محافظة تعز بوصفها الحاضنة الإستراتيجية للحركات القومية والتحررية، ومركز الثقل السكاني، ومحور صناعة التحولات السياسية في تاريخ البلاد. ولا يزال التنظيم يدفع بكل ثقله في هذه المحافظة؛ حيث انخرط في تحالف وثيق مع كتائب «أبو العباس» السلفية، المدعومة إماراتياً، ولا أدل على هذا الانخراط من الدور الإعلامي الذي يلعبه الناصريون في مساندة هذه الكتائب، واضطلاع ناشطين ناصريين بإدارة مكتبها الإعلامي، مع ما يهدف إليه هذا التحالف من محاولة لتحجيم نفوذ حزب التجمع اليمني للإصلاح في هذه المحافظة.

مع ما يشكله الحضور البارز للاشتراكيين والناصريين في حكومة الرئيس هادي؛ وانخراطهما في الائتلاف السياسي المؤيد لشرعيته، إلا أنهما رفضا المشاركة في بيان سياسي يدين الإمارات على خلفية نشاطها العسكري بجزيرة سقطرى، ومحاولتها السيطرة على مطار الجزيرة، وموانئها في مايو 2018. كما تبنى الحزبان، كذلك، صوتاً موحداً معارضاً لرئيس الحكومة أحمد بن دغر، الذي أقيل، بشكل مفاجئ، في  أكتوبر 2018، مما يعزز ما يثار من جدل حول إزماع الحزبين تشكيل ائتلاف سياسي، على غرار «تكتل أحزاب اللقاء المشترك»، الذي تمكن من إسقاط نظام الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، بعد ثمان سنوات من تأسيسه عام 2003.

دفعت الحرب الراهنة إلى الوجود تياراً سياسياً جديدا تمثل في «المجلس الانتقالي الجنوبي»، الذي تشكل أواسط عام 2017، على رغبات قوى إقليمية، ظاهرها إحداث توازنات في المشهد السياسي اليمني، وجوهرها المناورة به في وجوه التيارات المناوئة لهذه القوى، بما فيها الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً. وقد تجلى ذلك في دفعه إلى المواجهة الخشنة معها، وتبني مواقف متشددة تحاول إظهاره كمتصدر للمشهد الجنوبي، وبنزعة انفصالية تتخطى ما كان ينادي به الحراك الجنوبي، قبل انخراطه في مؤتمر الحوار الوطني عام 2013.

لا يزال هذا التيار مبهم النوايا إزاء الاتجاهات التي تبديها التيارات العلمانية، بفعل حداثة نشأته، لكنه، في جانب منه، يضم زعامات سياسية وشبابية، تميل نحو فكرة الدولة المدنية، وتحمل ثقافة عدائية تجاه تيارات الإسلام السياسي. كما لا يخلو هذا التيار من عناصر سلفية تشاطر هذه الزعامات تطرفها السياسي، لكنها قد تختلف معها في النظرة نحو نهج الدولة المدنية، اعتماداً على ثقافتها الدينية المتطرفة، ما لم يجرِ غربلة هذا التيار من هذه العناصر، ومن المؤسف القول: إن دورات العنف التي يشهدها الجنوب بين فترة وأخرى، قد تعود لتقوم بهذا الدور. 

مجمل القول، إذَن، إن هنالك حضوراً بارزاً للقوى العلمانية في السجال الدائر باليمن، وأن هنالك ما يشير إلى وجود تناغم بين اتجاهات هذه القوى، وطبيعة الدور الخارجي المؤثر في تحركاتها، وأن الهدف الرئيس من ذلك، قلب موازين التأثير السياسي، وضرب قواها المؤثرة، لا سيما ما يوصف بتيارات «الإسلام السياسي»، ممثلة بحزب التجمع اليمني للإصلاح، وإلى جانبه حزب «اتحاد الرشاد اليمني» السلفي، الذي تأسس عام 2012.

ويظل التأثير، الذي تطمح إليه مختلف القوى العلمانية، مرهوناً بارتباطها بقواعدها الشعبية، لكنه في تراجع أمام نفوذ تيارات الإسلام السياسي، والنزعات العصبوية داخل تيارات القوى العلمانية ذاتها؛ ما يعني أنها أمام معركتين لا تقل إحداهما ضراوة عن الأخرى. أولهما: معركة المشاركة في النفوذ والسيطرة، وثانيهما: معركة الوعي وبناء الإنسان. وهذه المعركة من أصعب المعارك وأطولها، خاصة في مجتمع لا تزال الكثير من نخبه تنظر إلى الدولة المدنية بوصفها مرادفاً للإلحاد.

عن (البيت الخليجي)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى