غيّروا وجه التاريخ: ماري كوري.. مكتشفة العناصر المشعة

> إعداد/ د. ياسر عمر الهتاري

>
أصبحت يتيمة بعد أن فقدت حضن أمها الدافئ وهي لم تتجاوز العاشرة من عمرها، لم تعرف أمها جيداً بسبب إصابتها بالسل، ولم تعرف لماذا أمها معزولة دائماً، لم تتعلم في طفولتها وتعلمت القراءة والكتابة عن طريق مراقبة أختيها الأكبر وهما تتعلمان، والتحقت بالمدرسة الثانوية دون أن تجتاز العديد من الصفوف الابتدائية لفقر والدها، وأصبحت فيما بعد أول امرأة بدرجة الأستاذية في جامعة باريس، وأول من حصل على جائزتي نوبل في الكيمياء والفيزياء، ولدت في 7 نوفمبر 1867م في بولندا في مدينة وارسو، إنها الطفلة اليتيمة الفقيرة ماري سكودوفسكا، أو كما سيعرفها التاريخ ماري كوري.
ماري كوري وزوجها بيير كوري في مختبرهما
ماري كوري وزوجها بيير كوري في مختبرهما

وعلى الرغم من فقر الوالد إلا أنه بذل قصارى جهده ليأمن أعلى تعليم ممكن لبناته، فبعد أن أنهت ماري دراستها الثانوية لم تستطع الالتحاق بجامعة وارسو لأنها كانت مخصصة للرجال، ولكنها واصلت دراستها في (جامعة وارسو العائمة) والتي كانت عبارة عن مجموعة من الفصول غير الرسمية، وسميت (عائمة) لأنها كانت غير معترف بها، فبعث والدها بأختها إلى باريس لدراسة الطب وعملت ماري خلال هذه الفترة كمعلمة لأطفال أسرة ثرية في الريف لتساعد في نفقات المعيشة، وكذا لتساعد في نفقات دراسة أختها (برونسوافا) في باريس.

ماتت بالعناصر التي اكتشفتها والتي أنقذت الآلاف من البشر
ماري كوري تقود عربة اشعة سينية متنقلة
ماري كوري تقود عربة اشعة سينية متنقلة

رحلت ماري كوري إلى باريس وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، والتحقت بجامة السوروبون، وكافحت ماري كثيرا لسداد نفقات دراستها فكانت تدرس بالنهار وتعمل في الليل، وعاشت هناك حياة صعبة في هذه الفترة إذ كان معظم طعامها يقتصر على الخبز والشاي والزبدة لقلة المال، وأحياناً كانت تصاب بحالة من الإغماء أثناء المحاضرات لسوء تغذيتها، وانهمكت على دراسة الفيزياء والكيمياء والرياضيات حتى حصلت أخيراً في 1893 على شهادة الماجستير في الفيزياء، وعملت بعد ذلك في أحد المعامل الصناعية إلى جانب استمرارها في الدراسة في السوربون وحصلت على شهادة الماجستير في الرياضيات في العام التالي.
ماري كوري في مؤتمر علمي ويتوسطهم جلوساً العالم اينشتاين - 1927
ماري كوري في مؤتمر علمي ويتوسطهم جلوساً العالم اينشتاين - 1927

تزوجت ماري كوري من مدرس الفيزياء والكيمياء (بيير كوري) الذي التقته في 1894 وحملت اسمه بعد ذلك طوال حياتها (مدام كوري)، وكانت بداية مدام كوري بعنصر اليورانيوم بعد اكتشاف العالم (هنري بيكوريل) الخاصية الإشعاعية لهذا العنصر، فاختارت ماري أن يكون موضوعها في أطروحة الدكتوراه عن اليورانيوم وإشعاعه، فاكتشفت أن اليورانيوم يبث إشعاعاً بحيث يجعل الهواء حوله موصلا للكهرباء، وذلك بعد أن تمكن زوجها (بيير) وشقيقه من اختراع المقياس الكهربائي (الإلكترو ميتر)، كما اكتشفت أن هذا الإشعاع يُبَث بمقدار ثابت، واكتشفت أيضاً أن هذا الإشعاع ليس ناتجاً عن أي تفاعل إنما هو يشع ذاتياً من اليورانيوم، وإلى جانب ذلك اكتشفت مدام كوري أيضاً عنصراً مشعاً آخر هو الثوريوم، إلا أن كشفها هذا جاء متأخراً قليلاً إذ كان قد اكتشفه قبلها ببضعة أيام الألماني (جيرهارد شميدت)، ثم أعلنت مع زوجها في يوليو 1898 عن اكتشافهما لعنصر مشع جديد أسمياه «البولونيوم» نسبة لوطنها (بولندا)، وفي ديسمبر من نفس العام أعلنا معاً عن وجود عنصر آخر يتميز بنشاط إشعاعي شديد هو الراديوم، وتمكنت ماري كوري من عزله بصورة خالصة في 1910، وكان لها الفضل في إطلاق مصطلح علمي جديد هو (النشاط الإشعاعي)، كما يعود الفضل لأبحاثها في بزوغ علم جديد هو علم (الفيزياء الذرية)، وخلال هذه الفترة عانت ماري كوري من صعوبات في تأمين معمل مجهز لأبحاثها حيث رفضت جامعة السوروبون تجهيزه لها، فعمدت على التهديد بتقديم استقالتها مالم تعمل الجامعة على ذلك، ولم يكن أمام السوروبون سوى تلبية رغباتها لأنها لم تكن على استعداد لفقدان اسم الأستاذة ماري كوري الذي كان ولا شك ستتلقفه أي جامعة أخرى وبشروط ماري.
ماري كوري - 1903
ماري كوري - 1903

لم تحصل حينها أي امرأة على جائزة نوبل لكنها بكفاح علمي حصلت على جائزتين منها، كانت الأولى في 1903 في مجال الفيزياء بمشاركة زوجها بيير والعالم هنري بيكوريل، وجائزة نوبل الثانية حصلت عليها في عام 1911 في مجال الكيمياء، تكريماً واعترافاً بفضلها في اكتشاف الراديوم والبولونيوم وعزل الراديوم، وفي لمسة وفاء أسري وعاطفي وعلمي، أهدت ماري كوري جائزتها إلى روح زوجها بيير الذي كان قد لقى مصرعه في حادثة دهس بعربة خيل في سنة 1906.
لوحة زجاجية لماري كوري في جامعة بافالو في نيويورك
لوحة زجاجية لماري كوري في جامعة بافالو في نيويورك

خلال الحرب العالمية الأولى، رأت ماري أن هناك حاجة لمراكز إشعاعية ميدانية للمساعدة في الجراحات الميدانية، فاشترت معدات الأشعة السينية ومركبات ومولدات مساعدة، وصممت وحدات متنقلة للتصوير الإشعاعي، التي عرفت شعبيًا باسم (كوري الصغيرة) تيمناً بها، وأسست أول مركز أشعة عسكري فرنسي في نهاية عام 1919، وبمساعدة من طبيب عسكري وابنتها (إيرين) ذات السبعة عشر عامًا، أدارت تجهيز 20 عربة أشعة و200 وحدة أشعة للمستشفيات الميدانية في أول أعوام الحرب، وتشير التقديرات لتلقي نحو مليون جندي العلاج فيها، فلها يعود الفضل في تركيب أجهزة توليد الأشعة السينية، إذ إن (كونراد رونتجن) الذي اكتشف الأشعة السينية لم يتمكن من إيجاد وسيلة لتوليدها، إلا أنه وبشكل غير مفهوم لم تحصل مدام كوري على أي تكريم من الحكومة الفرنسية نظير دورها في الحرب، ولم يزعجها ذلك فهي لم تعمل يوماً لغرض لفت الانتباه، ويكفي أنها لم تنشر أي أبحاث علمية لها فقط لتتفرغ للمساعدة في تشغيل وحدات الأشعة السينية في الجبهات، كما لم تحتكر مدام كوري إنجازاتها العلمية، ويكفي أنه عند تمكنها من عزل عنصر الراديوم المشع لم تعمل على تسجيله كبراءة اختراع، وذلك حتى لا يكون ذلك عائقاً أمام تطوير الأبحاث أمام الأوساط العلمية المختلفة لعلمها بالاستخدامات المختلفة التي يمكن أن تكون من تطوير الأبحاث في مجال العناصر المشعة.
تمثال لماري في جامعة ماريا كوري-سكوودوفسكا في لوبلين، بولندا
تمثال لماري في جامعة ماريا كوري-سكوودوفسكا في لوبلين، بولندا

توفيت ماري كوري في 4 يوليو عام 1934 في شرق فرنسا بعد شهرين من زيارة أخيرة لوطنها بولندا، متأثرة بنوع من فقر الدم بسبب شدة وطول فترات تعرضها للإشعاعات، حيث لم تكن الآثار الضارة للإشعاع معروفة حينها، فكانت تحمل أنابيب العناصر المشعة في حقيبتها الشخصية وتضعها في أدراج مكتبها دون أن تدرك المسكينة هول ما تعمل، والآن فإن الاطلاع على أبحاثها وأوراقها العلمية يتطلب ارتداء ملابس خاصة واقية من الإشعاع، وهي محفوظة الآن في صناديق مبطنة بالرصاص العازل وذلك لكمية الإشعاع المفرطة التي تعرضت لها أغراضها الخاصة، وهنا تكمن المفارقة، فقد ماتت مدام كوري بالإشعاع الذي اكتشفته وكان فيما بعد سبباً في إنقاذ الآلاف من البشر، ولا يزال حتى الآن يستخدم لهذا الغرض، فتحت إشرافها أجريت أول الدراسات لمعالجة الأورام باستخدام النظائر المشعة، كما أسست معهدًا مخصصًا للعلاج بالراديوم في مدينة وارسو سنة 1932 (يسمى حاليًا معهد ماري سكوودوفسكا كوري للأورام نسبة إليها)، وعملت بعد الحرب على تأليف كتاب بعنوان (الطب الإشعاعي في الحرب)، وتكريماً لها سُميَت وحدة قياس النشاط الإشعاعي عالمياً بوحدة كوري واختصارها Ci تكريماً لها.
جدارية على المبنى الذي ولدت به ماري صور الطفلة ماريا سكوودوفسكا وهي تحمل أنبوب اختبار تخرج منه العناصر الكيميائية التي ستكتشفها عندما تكبر الراديوم Raوالبولونيوم Po
جدارية على المبنى الذي ولدت به ماري صور الطفلة ماريا سكوودوفسكا وهي تحمل أنبوب اختبار تخرج منه العناصر الكيميائية التي ستكتشفها عندما تكبر الراديوم Raوالبولونيوم Po

كان لماري كوري ابنة (ايرين) حصلت هي الأخرى على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1935، وتوفيت هي أيضاً بسبب إصابتها بسرطان الدم، وذلك للكميات الهائلة التي تعرضت من الإشعاع تماماً حيث أهتمت بدراسة العناصر المشعة تماماً كأمها.
نقل قبر ماري وزوجها بيير كوري في عام 1995م إلى مقبرة العظماء (البانثيون) في باريس، وهي مقبرة مخصصة فقط لكبار علماء فرنسا، فأصبحت ماري أول امرأة تدفن فيها، فكانت ماري كوري أو كما عُرفَت بـ(مدام كوري) بما قدمته للبشرية من أبحاث ونكرانها للذات وفقدانها لحياتها جراء هذه الأبحاث، واحداً ممن غيروا وجه التاريخ.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى