العصبوية المناطقية في الجنوب.. كجماعة متخيلة!

> بدر قاسم محمد

>
 إذا ما وضعنا العصبوية المناطقية في الجنوب في قالب من قوالب “الجماعات المتخيلة” كتاب المؤلف البريطاني، بندكت اندرسن، الجماعات التي يسورها “بندكت” أو بمعنى أصح يرى أنها تسور نفسها بإيدلوجيا متخيلة أو بخيال إيدلوجي يجمعها تحت مظلة “واحدية اللغة أو العرق أو المعتقد أو.. إلخ”، لتتكور على نواة الفكرة الجامعة التي عادة ما تستلهم من إرث ضارب في القدم لهذه الجماعة أو تلك، حتى أن “بندكت” صنف (القومية) على أنها مجرد جماعة من الجماعات المتخيلة.

هذا ما قد يسهل علينا هنا عملية تصنيف “العصبوية المناطقية” في الجنوب على أنها أوهن تكوينة إيدلوجية لما قد يجوز لنا تسميتها هنا بالجماعة المتخيلة - لغة واصطلاحا - الجماعة التي أخذها الظن في الجنوب مؤخرا على أنها جماعة واحدة موحدة تشترك في (لهجة محلية، لا ترتقي حتى إلى مستوى اللغة) محددة بمنطقة جغرافية معينة.

العامل الأساس الذي ساعد في تنمية إيدلوجيا جامعة من هذا النوع لجماعة العصبوية المناطقية في الجنوب وحولها لجماعة متخيلة هو السلوك البريطاني الاستعماري للجنوب العربي الذي أعطى لهذه الجماعات تقسيما إداريا للجغرافيا، كل منطقة جغرافية على حدة بحدود متاخمة كلا منها للأخرى مبقيا على جزرة “الحدود المتنازع عليها” المتدلية آخر العصا الاستعمارية “عصا سياسة فرق تسد” أضافت معارك الاحتراب الحدودي في الجنوب بين سلطنات الساحل ضد سلطنات ومشيخات الجبال مجتمعة وعززت رابطة العصبوية المناطقية برابطة الدم والمصير الواحد.. هنا بالضبط ربما يمكننا القول إن هذا هو الجذر التاريخي الذي نشأت منه جماعات “العصبوية المناطقية” كآحاد على شكل وهيئة جماعات متخيلة تتخيل كل منها نفسها “جماعة موحدة” لديها مشتركات واحدة.. حتى بعد رحيل الاستعمار البريطاني من عدن وتمدد فكرة الدولة الجنوبية الواحدة واعتماد تقسيم إداري مغيار لجغرافيا الجنوب العربي المستعمر.

 لم تستطع الدولة الجنوبية اليمنية الوليدة تجاوز فكرة الصراع العصبوي المناطقي للجماعات المتخيلة التي اختطها السياسة الاستعمارية فطفت بذور وجذور التقسيم الاستعماري بحدود الدم من فوق سطح الخلط الإداري الجديد محاولة الطمر الوحدوي للفجوة التي تبنتها سياسة الدولة الوليدة بعد الاستعمار، فما لبثت أن أطلت “العصبوية المناطقية” برأسها وعاد الصراع مجددا يحتدم بصورته القديمة الجديدة في صورة الحروب الأهلية على كرسي الحكم والرئاسة في العاصمة عدن..
 بعد سلسلة من صراعات العصبوية المناطقية لهذه الجماعات المتخيلة الجنوبية ارتمت أخيرا الدولة الجنوبية بنهجها الاشتراكي في حضن المشروع الوحدوي اليمني مع الشمال الرأسمالي.. فصار ما صار من فشل المشروع السياسي الوحدوي مع الشمال وأتت حرب احتلال الشمال للجنوب في صيف 1994م عزز نظام صنعاء الاحتلالي للجنوب من ثقافة العصبوية المناطقية وعمل على إحيائها بقالب احتلالي مشابه للقالب الاستعماري السابق.. توالت الأحداث مؤخرا حتى أوصلتنا إلى سقوط العاصمة صنعاء في يد الجماعة الحوثية.. وبعد ان سقطت صنعاء ذهبت الجماعة الحوثية لإسقاط عدن عاصمة الدولة الجنوبية السابقة، فكان ما كان من عملية تدخل عسكري عربي في الحرب على الجماعة الحوثية المنقلبة على الدولة اليمنية، وبعد أن أدخل القطر اليمني تحت الفصل السابع الأممي وخرج مشروع قرار أممي مشرعن لعملية التدخل العسكري العربي في اليمن تم دحر الجماعة الحوثية من قبل قوات المقاومة الجنوبية وبدعم وإسناد عسكري من “التحالف العسكري العربي”.. استقرت متوالية الأحداث العسكرية على هذا الوضع الذي نحن عليه اليوم: سيطرة عسكرية جنوبية على كامل التراب الجنوبي مضاف إليها عملية توغل في محافظة الحديدة الشمالية الساحلية.

إذا عدنا لنلقي نظرة على الجنوب مرة أخرى وسألنا أنفسنا والحرب في الجنوب مع الجماعة الحوثية تحتدم: هل استطعنا بالدليل العملي ولو بشكل مؤقت تجاوز عقدة الجماعات المتخيلة الجنوبية المرتكزة على الأساس العصبوي المناطقي؟
أعتقد أنه قبل أن نجيب على هذا السؤال وجب علينا السؤال أولا: لماذا تشكلت في منطقة الساحل الجنوبية جماعات متخيلة على أساس عقدي كجماعة تنظيم القاعدة وجماعة أنصار الشرعية، بمعزل عن تشكل - إن جاز لنا التعبير - في منطقة الجبال الجنوبية جماعة متخيلة على أساس وطني؟! لماذا أبقى التاريخ على حالة فصام من هذا النوع بين الساحل العقدي والجبل الوطني؟! ثم لماذا أديرت دفة الحرب جنوبا مع الجماعة الحوثية على هذا النحو، جماعة الساحل العقدية وهي تبدو وكأنها بمعزل تام عن جماعة الجبال الوطنية؟!

أخيرا قد يبدو مقالي هذا محبطا بعض الشيء لكنه يظل محاولة من محاولات لفت النظر الجنوبي باتجاه التغلب على داء العصبوية المناطقية كجماعة متخيلة واهمة لا تستند على شيء والبحث على الأقل عن فكرة الحد من آثارها إن لم نستطع التغلب عليها!​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى