التأثر بحرب اليمن وأزمة الخليج دفعا مسقط للتخطيط الجيوسياسي في البحر

> «الأيام» عن "نون بوست"

>
إذا كانت الإمارات حاليّاً هي القوة البحرية الأكثر استباقاً وتوسعاً بسرعة في منطقة القرن الأفريقي، لكنها ليست الوحيدة، فسلطنة عُمان التي كانت لها إمبراطورية كبيرة في منطقة القرن الأفريقي عاشت لقرون تحاول الاستفادة من موقعها الإستراتيجي على المحيط الهندي، مما يسمح لها بتخطي مضيق هرمز، من خلال تطوير موانئها في صحار وصلالة والدقم.   

وبُخطى ثابتة تمضي السلطنة نحو توسيع حضورها في هذه المنطقة الإستراتيجية، وتحديداً في جيبوتي، حيث كانت وجهة صندوق الاحتياطي العُماني لتنويع استثماراته هذه المرة، في حين لم يعُد للجارة الخليجية الإمارات وجود. 

السلطنة تيمَّم وجهها شطر القرن الأفريقي
كانت جيبوتي هي الوجهة والمقصد لزيارة الرئيس التنفيذي للصندوق الاحتياطي العام للسلطنة عبدالسلام بن محمد المرشدي، وتضمنت مباحثاته الرسمية مع كبار المسؤولين الجيبوتيين، وفي مقدمتهم الرئيس إسماعيل عمر جيله، تعزيز التعاون لا سيما في مجال الموانئ والملاحة البحرية، وذلك على هامش المؤتمر الاقتصادي للنقل "إنترمودال أفريكا" الذي عُقد في جيبوتي منذ أيام.      

الزيارة العُمانية الرسمية جاءت في سياق خطوات توسيع الحضور العماني في القرن الأفريقي، وتمخضت عن اتفاقية تعاون إستراتيجي تمكّن عُمان من الاستثمار في موانئ جيبوتي وتشغيلها وإدارتها، فقد وقَّع الصندوق الاحتياطي العام للسلطنة وهيئة الموانئ والمناطق الحرة بجيبوتي برئاسة أبوبكر عمر هادي الاتفاقية التي تضمنت تطوير ميناء دوراليه، أحد أهم الموانئ في القرن الأفريقي.

وللميناء المذكور أهمية كبيرة لجيبوتي، وهي دولة صغيرة تقع على البحر الأحمر، وقوة اقتصادية في شرق القارة السمراء، ولموقعها قيمة إستراتيجية لدول مثل الولايات المتحدة والصين واليابان والمستعمر السابق فرنسا، ولجميعها قواعد عسكرية هناك.

وبحسب تصريحات للرئيس التنفيذي لصندوق الاحتياطي العام عبدالسلام بن محمد المرشدي، تضمنت الاتفاقية إنشاء ميناء جديد ومرافق لوجستية، بالإضافة إلى إيجاد توأمة بين الموانئ العمانية والجيبوتية، مشيراً إلى بحث فرص استثمارية للسلطنة في مجال خدمات تزويد السفن بالوقود بالتعاون مع شركة "أسياد".  

توقيع اتفاقية تعاون إستراتيجي بين الصندوق الاحتياطي العام العُماني وهيئة الموانئ والمناطق الحرة بجيبوتي
ورداً على سؤال عن الأهمية الإستراتيجية لهذه الاتفاقية، قال عبدالسلام بن محمد المرشدي، في مداخلة هاتفية على تليفزيون عُمان: "الموانئ الجيبوتية تفرض نفسها من حيث الموقع الجغرافي المتميز في ملتقى القوافل البحرية، وسواءً كانت الميزان التجاري يعمل لصالح الشرق أو الغرب فإن حركة البضائع يجب أن تمر على جيبوتي، وهذا يوفر ليس فقط محطة وقوف، وإنما يمكن لجيبوتي أن تكون محطة انطلاقة لباقي الدول الأفريقية ودول الشرق الأوسط". 

وتعد الموانئ والخدمات اللوجستية أحد أهم القطاعات الاستثمارية المستهدفة ضمن خطط صندوق الاحتياطي العام للسلطنة، إذ يستثمر الصندوق في عدة موانئ بمناطق مختلفة من العالم مثل ميناء "كمبورت" بتركيا وميناء "بهارت" بالهند إضافة إلى مشروع تطوير ميناء "باجامويو" بتنزانيا.   

وأقدمت سلطنة عُمان على هذه الخطوة -بحسب مراقبين- نتيجة تأثرها بحرب اليمن وأزمة الخليج وسعي الإمارات إلى الاستحواذ على موانئ البحر الأحمر لأغراض جيوسياسية، بينما يُعتبر الاتفاق بالنسبة لجيبوتي قوة مهمة في مجال تعزيز ثقة شركائها واستقطاب المزيد من الاستثمارات بغية تحقيق هدفها في أن تكون موانئها من أهم منصات التجارة في شرق أفريقيا.

الاستثمار العماني في جيبوتي هل يملأ الفراغ؟
في مقابل التحرك السلس لعُمان في القرن الأفريقي، تواجه الإمارات معركة تنافسية شرسة تهدد موانئها، فقد استثمرت دول الخليج الأخرى بكثافة في تطوير موانئها والبنى التحتية اللوجستية الخاصة بها، وينذر الانخراط التركي القطري في القرن الأفريقي، خاصة في الصومال، بتحديات جسيمة لموانئ الإمارات.

وبتوقيع الاتفاق تدخل سلطنة عمان في أجواء المنافسة المحتدمة على موانئ جيبوتي، وبموجب الاتفاق تستثمر عُمان في أحد أهم موانئ الحاويات في القرن الأفريقي وهو ميناء دواليه، بعد تجريد شركة موانئ دبي من امتيازها فيه، وهكذا سيملأ الاستثمار العماني في جيبوتي الفراغ الإماراتي الذي بدا احتلالاً يرتدي ثوب الأعمال.

وتعود هذه القصة إلى فبراير من العام الماضي، حينها اكتشفت جيبوتي ملاحق سرية للاتفاق المبرم مع شركة موانئ دبي العالمية لتشغيل موانئها لمدة 50 عاماً، انتزعت هذه الملاحق من المفاوض عن دولة جيبوتي بإغراءات مادية ورشَى.

ودفعت خسارة أبوظبي لإطلالة حيويّة على باب المندب في جيبوتي إلى التحول إلى إريتريا وانتزعت منها على ما يبدو ما عجزت عن انتزاعه من جيبوتي، وهو بعبارة أوضح احتلال مساحة من القرن الأفريقي تحت لافتة الاستثمار وتسخيرها لمآرب عسكرية وسياسية تعزز نفوذها في المنطقة.

وهذا ما كشفه مقال سابق لـ "نون بوست"، استند إلى تحقيق بثته قناة "الجزيرة" بعنوان "حرب الموانئ"، حيث كشف تحليل خبراء لصور أقمار صناعية أن ميناء مدينة عصب تحول إلى ثكنة عسكرية ليكون حديقة خلفية للحرب في اليمن، وقد أنكرت العاصمة الإريترية أسمرة بطبيعة الحال ذلك جملة وتفصيلاً في بيان رسمي لوزارة الإعلام الإريتري.

ويبدو أن جيبوتي متصالحة مع ذاتها ومع مصالحها لأنها تعي على الأرجح أنها حجر الزاوية في منطقة القرن الأفريقي، وأن موانئها مرشحة لتكون واحدة من أهم منصات التجارة في المنطقة، لذا فهي تبحث في هذا الصدد عن مكاسب إستراتيجية طويلة الأمد.

موانئ القرن الأفريقي
وعلى هذا الأساس فإن جيبوتي وعمان، على ما يبدو، كل واحدة منهما تبحث عن ضالتها عند الأخرى، فكلتاهما تنظر إلى هذا الاستثمار بعين التنمية إلا أن مسقط أيضاً تبدو واعية للمتغيرات حولها وتسعى للحيلولة دون تحول حيادها إلى عزلة سياسية واقتصادية، وذلك بسبب ارتدادات الأزمة الخليجية للنفوذين الإماراتي والسعودي في البحرين: البحر الأحمر، وبحر العرب.

في الوقت الذي تسعى فيه الأمارات لتوسيع نفوذها في القرن الأفريقي، فإنها تتصدر المنافسة لجيرانها، فقد انطلقت مجلة "فورين أفيرز" -الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية، أعرق المنظمات الأمريكية لتحليل الوضع السياسي العالمي- من السباق الخليجي في منطقة القرن الأفريقي، ووصفته بـ "النهم"، داعية إلى ممارسة الصبر والتمنع عن نقل الخلافات الخليجية إلى ما وصفتها بـ "البيئة الخطيرة".

وقد يكون هذا الوصف دقيقاً نظراً إلى تحول سياسي داخلي في دول القرن الأفريقي هو الأشمل منذ 3 عقود، وازدحام القواعد والمصالح الأمريكية والفرنسية والإيطالية واليابانية والتركية والإيرانية وقريباً الروسية.

ميناء الدقم.. سحب البساط من تحت أقدام ميناء "جبل علي"
بعيداً عن منطقة القرن الأفريقي التي كانت يوماً هادئة، وعلى بعد مئات الأميال من شاطئ خليج عمان، تخطط السلطنة لمشروع تسعى فيه لتقليل اعتمادها هي الأخرى على النفط، وأيضاً، منافسة جارتها الإمارات في صناعة السفن عبر ميناء الدقم الذي تعتبره مسقط "مشروعها الاقتصادي الأكبر في الشرق الأوسط، ومن بين أكبر مشاريع العالم"، هكذا يقول مدير المشروع، صالح بن حمود الحسني. 

كانت "الدقم" مدينة صيد هادئة، ثم فجأة تحولت إلى ميناء حيوي قد يغير خريطة المنطقة جيوسياسياً، حيث تعيد السلطنة بناء الميناء لمنافسة نظيره في الإمارات، إنه ميناء جبل علي بإمارة دبي، الذي يستحوذ على حصة الأسد، بطاقة استيعابية تبلغ 22 مليون حاوية سنوياً. 

الحكومة العُمانية تنفق مليارات الدولارات على تطوير المنطقة المحيطة في قرية الدقم النائية التي يعمل أهلها بالصيد، لتصبح منطقة نشاط اقتصادي كبيرة، بهدف جذب شركات لخلق عشرات الآلاف من الوظائف، من المتوقع أن يبدأ المشروع العمل بطاقته الكاملة بحلول عام 2020.

واستلهاماً من العاصمة البحرية العالمية سنغافورة، بدأت المنطقة الاقتصادية في الدقم بتنفيذ العديد من المشاريع، من بينها ميناء متعدد الأغراض، ومصفاة تهدف لمعالجة 230 ألف برميل نفط يومياً، وأكبر حوض جاف في الشرق الأوسط لإصلاح السفن، ويتسع لنحو 200 سفينة كل عام، بالإضافة إلى ميناء للصيد ومناطق سياحية وصناعية ولوجستية ومدينة تعليمية ومدينة سكنية حديثة.

وتسعى المنطقة لجذب الاستثمارات والتوسع في إعادة التصدير، وتشجيع انخراط العمالة الوطنية في الأنشطة الاقتصادية المُرتقبة، وتفعيل التوسع العمراني لمدينة الدقم الحديثة، وكذلك حماية البيئة في المنطقة، وتعد المنطقة من أفضل الأماكن بالشرق الأوسط، سواءً للسياحة أم للعيش أو العمل والاستثمار.

وبحسب مقال لموقع ميدل آيست آي: "من المتوقع أن يسرق مشروع ميناء الدقم الحديث الأضواء من ميناء جبل علي في الإمارات، حيث يأمل ميناء الدقم في تحدٍ للميناء الإماراتي فيما يتعلق بالملاحة البحرية من خلال توفير منفذ رئيسي إلى الممرات البحرية الرئيسية بين البحر الأحمر والخليج".

عمال أجانب في مشروع ميناء الدقم
وبعيداً عن الجوانب الاقتصادية، للمشروع أهداف سياسية أيضاً، فالميناء سيكون بديلاً للسفن المحملة بالنفط التي ستمر في مضيق هرمز، بوابة الخليج الأولى، وفي حال نشوب أي معركة مع إيران فإن تهديدات طهران بإغلاق مضيق هرمز لن تكون لها فائدة، فالميناء العماني سيصبح البديل الأمثل للشحن دون المرور في مضيق هرمز، ومن ثم البُعد عن تلك الاضطرابات.

الميناء أيضاً يشكَّل رابطًاً مهماً في مبادرة الحزام الصينية أو طريق الحرير البحري، لكن رغم كل ما سبق فهناك عوائق أمام المشروع أيضاً، فسكان المنطقة لا يرغبون في هذا التحوّل الكبير رغم الإغراءات الحكومية التي وصلت لمنح بعضهم 150 فيلا فاخرة، بدلاً من بيوتهم القديمة.

أيضاً تأخر تسلّم المشروع بسبب الانكماش الاقتصادي الإقليمي، كذلك قد يؤثر حصار قطر على المشروع، فالمسؤولون في مسقط غير سعداء بالحصار، ويخافون تأثيره بعيد المدى على الرؤية والاقتصاد العماني، في حين يعتمد مشروع الدقم على تكامل اقتصادي أعمق بين دول الخليج، لكن الأزمة بين قطر وجيرانها لا تبشر بخير بالنسبة لمشروع ميناء الدقم.

موسم الهجرة إلى جيبوتي
الدولة العربية الصغيرة في القرن الأفريقي أصبحت منذ عقود ميداناً لقواعد عسكرية لعدد من القوى الدولية، وتضم على أراضيها عدداً قياساً من القواعد العسكرية الأجنبية، ما جعلها تستحق لقب "ثكنة العالم"، فلماذا جيبوتي؟
تكتسي الدولة الأفريقية الصغيرة أهمية جيوإستراتيجية كبيرة، وتصارعت عليها القوى الكبرى منذ قرون، فقد احتلها الفرنسيون، وحاولت بريطانيا السيطرة عليها أيضاً، يُضاف إلى ذلك موقعها المثالي، إذ تشرف على مضيق باب المندب المتحكم في الدخول إلى قناة السويس، رابع أهم طريق بحري في العالم، وتمر يومياً قبالة سواحلها نحو 20 % من التجارة العالمية.

جيبوتي تقع أيضاً على مقربة من أغلب مناطق الصراع في الشرق الأوسط، وأصبحت قاعدة عالمية لمكافحة القرصنة القادمة من الصومال، ففي عام 2012 أطلقت الولايات المتحدة نحو 12 طائرة مسيرة يومياً انطلاقاً من جيبوتي، أمَّا الصين المتغلغلة أصلاً في مفاصل البلد، فاختارت هذا البلد لتجعل فيه أول قاعدة عسكرية لها خارج البلاد.

كما أن لها أهمية أخرى لمستقبل "طريق الحرير" الصيني الجديد، الذي ستمثل جيبوتي فيه نقطة مرور رئيسية إلى شرق أفريقيا، ما دفع الصين للبدء في تشييد ما لا يقل عن 8 موانئ في هذا البلد الصغير، وبناء سكة حديد تربطها بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا. 

ومن الجانب الأفريقي مثَّل استقلال جارتها إريتريا مشكلة لإثيوبيا، إذ حرمها من منفذ على البحر فاضطرت للاعتماد على ميناء جيبوتي الذي يقوم بمناولة نحو 95 % من إجمالي حجم التجارة المتجهة إلى إثيوبيا، في حين تجلى التغول الإماراتي عبر ذراعه شركة موانئ دبي في القرن الأفريقي أيضاً عند السواحل الإريترية، وذلك كبديل عن القاعدة والميناء اللذين خسرتهما في جيبوتي.

جيبوتي دولة آمنة نسبياً مقارنة بمحيطها، واستثمر نظامها في بيع هذا الاستقرار، حيث تدفع الصين إيجاراً سنوياً لقاعدتها نحو 100 مليون يورو، وما يقارب 70 مليوناً من الولايات المتحدة، وجميعها مبالغ ضخمة تعزز اقتصاد البلد الصغير.
أمَّا المشهد الداخلي فيُختزل في صورة إسماعيل عمر جيله، الرئيس الذي يتزعم ثاني أكبر دولة في أفريقيا من حيث عدد السكان منذ 20 عاماً، وتحت رئاسته يعيش نحو خمس السكان تحت خط الفقر، ونحو 40 % غارقين في البطالة.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى