الأقاليم الستة مخالفة لوثيقة «الحلول والضمانات للقضية الجنوبية»

> قادري أحمد حيدر

> الإهداء: إلى الصديقين والمناضلين الكبيرين: أ. أبوبكر باذيب، ود. ياسين سعيد نعمان، قامتان وطنيتان لهما كل المحبة والتقدير.
فالأول أبوبكر باذيب أستاذ ومربٍ فاضل للأجيال من بداية العام 1962/63م، في المدرسة الثانوية في خورمكسر، درس على يديه ثلة وكوكبة ممن أصبحوا قادة سياسيين ورجال فكر وإدارة وقانون واقتصاد منهم: (عبدالعزيز باسودان، محمد جعفر قاسم، أحمد صالح الجبلي.. إلخ) حتى توليه أرفع المواقع والمناصب القيادية في الحزب الاشتراكي اليمني، وفي الإشراف على بعض المؤسسات الهامة في  الدولة، وهو من قدم رؤية حول «دولة اتحادية من إقليمين» بعد فشل تجربة الوحدة الاندماجية بالحرب، رؤية هي ثمرة نقاشات وحوارات أدارها مع مجموعة من قيادة الحزب، وقُدّمت لقيادة الحزب موقعة باسمه قبل أن يكون هناك مؤتمر للحوار الوطني بسنوات قليلة.

وإلى الصديق والقائد السياسي المحنك والمثابر صاحب العقل المستنير والفكر النقدي المنير، د.ياسين سعيد نعمان، الذي حول فكرة دولة اتحادية من إقليمين إلى مشروع فكري سياسي وحواري، وإليه تحديداً، وهو في قيادة الحزب وفي رئاسة مؤتمر الحوار يعود فضل بلورة وإنضاج فكرة دولة اتحادية من إقليمين، رؤيةٌ نظّر لها ودافع عنها كرؤية وكفكرة وقضية سياسية وطنية.. يؤكد المشهد السياسي، في الأمس واليوم أكثر، واقعيتها وصدقيتها.

لا جدال في أن تجربتنا في اليمن مع بناء الدولة المدنية والوطنية الديمقراطية الحديثة قد باءت بالفشل، في الشمال والجنوب، بدرجات متفاوتة ولأسباب مختلفة في كل شطر، وجاءت الوحدة اليمنية السلمية على قاعدة التعددية والديمقراطية، لتؤكد أن الموانع والتحديات ما تزال كبيرة، وهي المصاعب والتحديات التي كان يفترض أن يتم التمهيد لتجاوزها قبل إعلان قيام الوحدة، وأن تسبق قيامها، على الأقل، لتخفف من عواصف الممانعة والمعارضة، ليس لاستمرار دولة الوحدة، بل لمجرد البدء التنفيذي الإجرائي في التأسيس لقيامها. ولذلك كانت المعارضة للوحدة في الأشهر الأولى لقيامها باتفاق سياسي ضمني وعملي بين أطراف الوحدة الثلاثة في الشمال، وهو ما أشار إليه الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر في مذكراته (ص 248)، من أن فكرة وقضية الوحدة، وبناء دولة الوحدة لم تكن أكثر من لعبة سياسية بين أطراف سلطة صنعاء (العسكر، ومشايخ القبائل، ورجال الدين السياسي)، ومن هنا كان ضرورة البدء في وضع العصي أمام أي محاولة أو إمكانية للبدء السياسي أو الإداري أو القانوني والدستوري في بناء دولة الوحدة. فقد جرى تحشيد وتجييش المجاميع القبلية والدينية من كل قبائل «طوق صنعاء» باسم معارضة ورفض الدستور «العلماني» والتوجّه الماركسي لبناء الدولة، تحت خطاب سياسي ديني - حزبي وتكفيري، يطال أطراف واسعة من المجتمع، ضمن صفقة سياسية، كما أشرنا، بين علي عبدالله صالح، والشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، والشيخ عبدالمجيد الزنداني، والمجاميع «الجهادية» العائدة من أفغانستان.

وهنا بدأت الاغتيالات لقيادات الدولة الجنوبية، ولقيادات الحزب الاشتراكي التي طالت كل قياداته العليا، من رئيس البرلمان، إلى رئيس الحكومة، إلى عضو مجلس الرئاسة وقيادات عسكرية، ووزراء وقادة حزبيين ورجال دولة، وصل عددهم خلال سنة إلى أكثر من مائة وستين قيادياً وكادراً حزبياً، وهو مؤشر «سياسي أمني عسكري» في وجه أي تحول جدي نحو بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، حيث كان الإصرار على الاستمرار في إدارة السلطة والدولة بذات الطريقة القديمة، مستثمرين حالة أن الدولة الجديدة «دولة الوحدة» قد أعلنت وقامت دون أسس ودون مقدمات مؤسسية وإدارية وقانونية ودستورية واضحة. ولذلك رفع سوط شعار الانفصال في وجه كل من يدعو إلى تصحيح وتصويب مسار الوحدة، ووجهت محاولة إخراج (وثيقة العهد والاتفاق) بكل ذلك العنف والرفض والمماطلة وحتى القتل. وحين جرى توقيعها في عمان الأردن، تحت ضغط الحراك السياسي والجماهيري الواسع في كل البلاد، جرى العمل الجدي لعدم تنفيذها بعد التوقيع، في إعلان بيانات الحرب، التي سبقتها تسويفات في عدم اتخاذ أي إجراء سياسي إداري قانوني دستوري في السير باتجاه بناء الدولة الوطنية المدنية الحديثة، بل وتعطيل جميع آليات عمل الدولة الجديدة.

لقد كشفت الحرب ونتائجها المأسوية أن اتجاه الرفض والممانعة في قلب سلطة صنعاء السابقة، كان أكبر من أن يتحمل قيام دولة سلطة القانون والمساواة والعدل على أنقاض «دويلة المركز والعصبية».
ولذلك كانت الحرب خيارهم الوحيد لإعادة إنتاج النظام القديم. ومن هنا استشعر جميع أطياف وشرائح وطبقات  المجتمع قبل الحرب، من أنه لا خيار سوى الدخول الوطني العام إلى مشروع  بناء الدولة الاتحادية، وكانت وثيقة «العهد والاتفاق» هي راية الخلاص السياسي والوطني على طريق لجم أو تحجيم تيار الحرب، والشروع في تنفيذ الخطوات الأولى نحو بناء دولة اتحادية تعاقدية مدنية، وأن المسار الوحيد المتاح والممكن أمام اليمنيين جميعاً ليس سوى الشروع الطوعي بالاتفاق على خيار تنفيذ «وثيقة العهد والاتفاق»، فجرى نقضها بالحرب، وهي وثيقة الإجماع الوطني الديمقراطي الواسع. ولذلك نحن اليوم، مع الأسف، لم نتعلم من التاريخ، ونجد أنفسنا اليوم، مرة ثانية نكرر ذات الخطأ السياسي القاتل بالانقلاب على «مخرجات  الحوار الوطني الشامل»، وهي وثيقة إجماع وطني حقيقي لجميع أطراف المجتمع على طريق دولة مدنية وطنية اتحادية من عدة أقاليم، يجري الاتفاق حولها بالتوافق السياسي الحواري وليس عبر «الفرض الإداري» خارج نطاق التوافق السياسي بين جميع أطراف المعادلة السياسية الوطنية اليمنية.. ومن هنا كان إصرارنا وإقرارنا جميعاً في قلب مؤتمر الحوار الوطني من أن الدولة البسيطة «دويلة المركز السياسية التاريخية» فشلت وعجزت أن تكون دولة لجميع مواطنيها، من حيث إنها غير مؤهلة، واقعياً وسياسياً، لإنجاز مهمات المرحلة التاريخية. ولذلك اتفقت جميع المكونات والأطراف السياسية والمدنية والشباب والمرأة والمستقلون، من أن وثيقة «مخرجات الحوار الوطني الشامل» هي مدخلنا لذلك، وهنا أدرك علي عبدالله صالح تحديداً، خاصة بعد تثبيت نص منع القيادات العسكرية الكبيرة من ذوي القرابة إلى درجة الرابعة، في المشاركة في الحكم إلاَّ بعد مرور عشر سنوات. ولذلك كانت مجاميعه وأزلامه وزبانيته تعمل بجهد حثيث لإعاقة سير أعمال مؤتمر الحوار الوطني عبر كل الفرق المعنية، وباء فألهم وترتيبهم بالفشل، وخرجت المخرجات للعلن بالتوافق الوطني العام، وبحضور وتأييد دولي واسع، حتى صارت مخرجات الحوار الوطني، وثيقة وطنية ودولية، مثبتة كمرجعية للحوار وللحل.

 ويمكننا القول والتأكيد على أننا وفي قلب مؤتمر الحوار الوطني الشامل لم نقر نص مبدأ أو قرار الستة الأقاليم، وبقي خيار «الستة والإقليمين» في دائرة الحوار والبحث، وهي الثغرة، وغيرها كثير، التي نفذ منها تحالف الحرب في تنفيذ الانقلاب، بعد أن أدخل علي عبدالله صالح الحوثيين طرفاً في معادلة الانقلاب على مخرجات الحوار الوطني يستقوي بهم ضد جميع الأطراف السياسية في البلاد. ومنها دخلنا إلى دائرة الحرب المستمرة القائمة.

إن ملاحظاتي في حينها واليوم معارضة حول خيار دولة اتحادية من ستة أقاليم تتحدد وتتمثل في التالي:
أولاً: من حيث المبدأ، إن قرار التقسيم إلى ستة أقاليم، جاء مخالفاّ لنصوص ومحتوى «وثيقة الحلول والضمانات للقضية الجنوبية»، وكذلك مخالفاّ لمخرجات الحوار الوطني، أي أن قرار التقسيم إلى ستة أقاليم، هو قرار سياسي سلطوي، فيه تجاوز وتعسف للحوار وتجاوز لنصوص وثيقة الحلول للقضية الجنوبية، في بابها الأول (المبادئ) التي أكدت على البعد السياسي، والجيوسياسي للقضية الجنوبية (الندية والتكافؤ) بين الشمال والجنوب. وبهذا المعنى، فإن قرار التقسيم إلى ستة أقاليم نقل القضية الجنوبية من حيزها السياسي، إلى قضية إدارية جرى فيها طمس وتغييب المضمون السياسي للقضية الجنوبية داخل مشروع التقسيم إلى ستة أقاليم، وكأن القضية الجنوبية مشكلة كامنة في التقسيم الإداري، أو في المركزية التي كانت تهيمن على جوهر النظام السياسي والدولة في الشمال قبل الوحدة . هذا مع أن وثيقة الحلول والضمانات للقضية الجنوبية المقرة في مؤتمر الحوار الوطني تؤكد على تمكين الناس من اختيار مكانتهم السياسية، وهي القاعدة التي تعمد أطراف حرب 1994م إلى تجاهلها وإهمالها.

إن من ذهبوا إلى خيار الستة الأقاليم، كانوا يستهدفون خلط الأوراق على الجميع، وتعطيل الإمكانية الواقعية للدولة الاتحادية من الأساس، فهم قبلوا شكلياً بوثيقة الحلول والضمانات للقضية الجنوبية، ولكنهم يعملون فعلياً وواقعياً ضد تنفيذها، بدليل رفضهم المطلق لمخرجات لجنة الضمانات التي وافقت عليها لجنة التوفيق.

ثانياً: لقد أثارت صيغة الدولة الاتحادية من إقليمين هواجس لا معنى لها، هواجس سياسية مفتعلة، وهو أن خيار «الإقليمين» هدفه المبطن هو الانفصال بعد  انقضاء المرحلة الانتقالية. وكأن الرافضون لهذه الصيغة ينطلقون من فرضية، أن السلطة الحالية ستستمر على نهج السلطة السابقة، وستواصل نفس الممارسات التي أوصلت الإخوة في الجنوب إلى اليقين بأن وضع الجنوب لن يتحسن إلا بفك الارتباط والعودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل عام 1990م، مما يجعل هؤلاء الرافضين لصيغة الإقليمين واثقين استناداً إلى هذه الفرضية من أن الأمر سينتهي، بعد المرحلة الانتقالية، حتماً إلى تعزيز الاقتناع لدى الإخوة في الجنوب بأن لا حل للمسألة الجنوبية، إلا بالانفصال. ولو أن هؤلاء وضعوا في اعتبارهم أن اختلاف النهج والممارسة سيقودان إلى اختلاف النتيجة، ما استبعدوا مناقشة هذا الخيار؛ أي خيار الإقليمين الذي تقدم به الحزب الاشتراكي مشفوعاً برؤية سياسية واقعية تاريخية، ذلك لأنهم، في قرارة أنفسهم، كانوا يرون بأن لا تغيير سيحصل في صورة، ومضمون النظام الجديد، وفي جوهر وشكل حكمه، ولذلك تجاوزوا خيار الإقليمين إلى الستة، بدون أي رؤية سياسية واقعية وتاريخية، تبرر مشروعية هذا الخيار الذي لا أفق سياسي واقعي في إمكانية تحققه على الأرض.

ثالثاً: ارتكز التقسيم إلى ستة أقاليم واعتمد على قاعدة إعادة إنتاج تقسيم الجنوب، بعودته إلى الحالة الاستعمارية «الإنجلوسلاطينية»، ثم ارتكز في الشمال على تقسيمه وتفكيكه، على قاعدة تقسيم مناطقي ومذهبي وقبلي، ولم يهتم بمعايير السكان والمساحة والثروة،. عزل مناطق الثروة في الجنوب والشمال، محدودة الكثافة السكانية، عن مناطق الكثافة السكانية الفقيرة، بما قد يفتح الباب أمام حروب وصراعات لا تنتهي، كما أن هذا الخيار (الستة الأقاليم) حتماً سينعش قضية ومسألة الهويات المستقلة باتجاه سلبي يشكل (دويلات) في واقع غياب الدولة الوطنية ومؤسساتها، وحالة الفوضى القائمة وصراع المليشيات، ناهيك عن ضعف الاندماج الاجتماعي والوطني، خاصة وأن عمر الدولة الوطنية في الجنوب قصير لا يتجاوز (23) سنة، هي سنوات ما بعد الاستقلال الوطني 30 نوفمبر 1967م.

رابعاً: إن خيار الستة الأقاليم، جاء ليفرغ القضية الجنوبية من محتواها السياسي، وليقفز عليها، كقضية سياسية، هروباً من إمكانية تقديم حل سياسي عادل وواقعي، حل ندّي لها، كما جاء في وثيقة الحلول والضمانات التي أقرها فريق القضية الجنوبية بإشراف نائب الأمين العام للأمم المتحدة، وصارت من الوثائق الأساسية لمخرجات الحوار الوطني الشامل، وهو قمة التحايل على القضية الجنوبية وعلى إمكانية تقديم حل سياسي عادل لها، وتحويلها وفقاً لخيار شكل الدولة من ستة أقاليم إلى قضية اجتماعية ثانوية، شأنها شأن أي قضية جهوية مناطقية، كانت وما تزال قائمة في نطاق نظام «الجمهورية العربية اليمنية» سابقاّ، و «الجمهورية اليمنية» حالياً.

خامساً: خيار الستة أقاليم، خيار غير واقعي ولا يمتلك شروطاً تحققه في الواقع القائم اليوم في البلاد، بل ولعقد قادم من الزمن، وخاصة بعد الحرب الجارية والمستمرة لأكثر من أربع سنوات، وهو خيار فتنة وصراع. خيار تم استقدامه من تحالف حرب 1994م لضرب أو إزاحة خيار الإقليمين، (شمال وجنوب)، وهو خيار لا يتفق مع وثيقة الحلول والضمانات، خاصة في قسمها الأول (المبادئ) التي تؤكد على الندية والتكافؤ، بين الشمال والجنوب، في إطار حالة جيوسياسية، مركبه أو ثنائية، في إطار دولة اتحادية.

أن خيار الستة أقاليم لا يؤسس لتصحيح الخطأ التاريخي، للوحدة السلمية التي جرى نقضها بالحرب عام 1994م، كما أشار د.ياسين سعيد نعمان في كتابه «عبور المضيق» لأن خيار الستة الأقاليم ينطلق من نتائج حرب 1994م ذاتها، الاندماجية وليس الاتحادية، وهو ما تنبه له القرار الأممي، وكل ما عملوه هو أنهم تحايلوا على ما وافقوا عليه في الباب الأول من الوثيقة التي تحدثت عن قيام دولة اتحادية بين جيوسياسيتين تاريخيتين: شمال وجنوب، وحتى في مشروع أقاليمهم الستة، قالوا إقليمين في الجنوب، وأربعة أقاليم في الشمال، وقال المشروع الآخر إقليم في الجنوب وإقليم في الشمال، فكيف يكون الأول وحدوياً، والثاني انفصالياً؟.

إن وثيقة الحلول والضمانات للقضية الجنوبية، وكذا مخرجات الحوار الوطني كلها، تؤكد على قضية الدولة الاتحادية ضدا وتجاوزاً على الاندماجية التي ما تزال تهيمن على عقل تحالف حرب 1994م حتى اللحظة.. ومن هنا توحدهما في تقديم خيار الستة أقاليم، لإعادة إنتاج نفس النظام السابق، بقوة الأمر الواقع، بعد أن يفشل خيار الستة أقاليم، وبعد أن فرضوا بالقرار الإرادي السلطوي خيارهم، وتمكنوا من تجاوز الباب الأول من وثيقة الحلول والضمانات للقضية الجنوبية، أي المبادئ المؤسسة للدولة الاتحادية الندية المتكافئة.

سادساً: إن خيار دولة اتحادية من عدة أقاليم في واقع الانقسام والتفكك السياسي والاجتماعي والوطني الحاصل، بين الشمال والجنوب، وفي داخل كل من الشمال والجنوب، أمر محفوف بالمخاطر، ومغامرة غير محسوبة النتائج، سيكون مدعاة للتفكك والتحلل أكثر، خاصة في حالة فرضه بالقسر وبطريقة فوقية، أو بالقوة.. ومن هنا طرْحنا لخيار دولة اتحادية من إقليمين، متوافرة شروط تحقيقه في الواقع دون عناء، ودون مخاطر قد تهدد وحدة البلاد إلى مدى غير منظور.

سابعاً: إن خيار الوحدة من عدة أقاليم، كان أمراً واقعياً وممكنا تحقيقه، في شروط أو ظروف وحدة 22 مايو 1990م، حين كان الشعب اليمني كله في الجنوب والشمال يمثلون الحامل السياسي والاجتماعي والشعبي والوطني للوحدة، وحين كانت القوى الاجتماعية تمثل الرافعة السياسية لمشروع الوحدة، وكانت الجماهير في الشطرين تمثل قوى ضغط شعبية وسياسية ووطنية مؤثرة، على سلطتي الشطرين. أما اليوم فالعكس صحيح، والمخاطر أكبر وأعظم.

ثامناً: إن خيار دولة اتحادية من إقليمين نفسه، يحتاج إلى عمل سياسي لإقناع قسم كبير من الشارع الجنوبي به، ويحتاج كذلك إلى عمل إداري وفني ومؤسسي نوعي، خاصة بعد كل ما جرى من اجتياح وحرب على الجنوب، حتى يتحقق ويستوي في الواقع. فما بالكم بخيار دولة اتحادية من (ستة أقاليم)؟ تحدياتها ومصاعبها وتعقيدات وجودها وقيامها واستمرارها أكبر، وشروط تحققها الذاتية والموضوعية غير قائمة وغير ممكنة، على الأقل لعدة سنوات قادمة، ولا نعلم كيف ستقام، ولا كيف ستؤسس وتبني في الواقع، ولا تزال خرائط على الورق، في أشكال من البدائل المتعددة والمختلفة، تعكس حالة عدم الاستقرار على رأي محدد وواضح على مستوى الخرائط، ناهيك في حالة تحويلها إلى تطبيق في الواقع.

تاسعاً: إن خيار الوحدة من ستة أقاليم، يحتاج أولاً إلى حضور وفعل دولة قوية مؤسسية، قادرة على فرض هيبة الدولة، وهي القوه الوحيدة التي من حقها احتكار العنف، على الجميع. كما يحتاج ثانياً، إلى وضع اقتصادي قوي، ومصادر للثروة داخلية تغطي تكلفة هذا المشروع. وباختصار، إن تكلفة هذا المشروع فوق قدرة البلاد الاقتصادية، حتى في ظل وجود دعم خارجي مساند داعم لهذا المشروع، لأنه لا يمكننا أن نرهن مشروع قيام أي دولة بالمساعدات الخارجية.

عاشراً: إن الجيش والأمن، من أهم مكونات ومقومات وجود أي دولة وطنية، ناهيك عن قيام دولة اتحادية مدنية من عدة أقاليم، وهما في حالتنا الراهنة غائبين وفاقدين لهويتهما الوطنية الجامعة، ولا يمكن الاعتماد عليهما ليكونا القوة الضاربة الحامية لمشروع دولة متعددة الأقاليم، ضِفْ إلى ذلك أنه ما تزال القوى السياسية الاجتماعية التقليدية ترفض وتعيق إمكانية إنجاز مهام إعادة هيكلة الجيش والأمن، بل إن الجيش والأمن اللذين يتشكلان في المواقع والأماكن المختلفة في الشمال والجنوب، حولهما الكثير من الشكوك، من أنهما جيش وأمن وطنيان. فما تزال روحية وسلوك وشكل إدارة الميليشيا هي من يتحكم بهما، وتديرهما، بعيداً عن عقيدة الجيش الوطنية، كما أنه في غالبه يبنى على خلفيات حزبية، وأيديولوجية سياسية مقسمة بين أطراف حزبية عديدة. باختصار، إن حالة ووضعية الجيش والأمن القائمة تقول بوضوح إنها مجاميع وتجمعات عسكرية و مليشاوية وحزبية خاصة، ولا صلة لها، في أغلبها، بمسمى «الجيش الوطني». وما يجري في محافظة تعز ومأرب وفي كل الجنوب يقول ذلك بوضوح.

الحادي عشر: هل بالإمكان أن نقيم ونبني دولة اتحادية من عدة أقاليم، في ظل عدم تقديم معالجات جدية وحقيقية سياسية واقتصادية وقانونية ودستورية للقضية الجنوبية، وللقضية الوطنية عامة؟! وهما القضيتان المركزيتان المترابطتان اللتان تتعرضان للتفتيت والتفكيك والهيمنة من أطراف خارجية: السعودية والإمارات وإيران.
الثاني عشر: هل بالإمكان إقامة دولة اتحادية، من ستة أقاليم وهناك محافظات في الشمال خارج سلطة الدولة، إضافة إلى جنوب بكامله خارج سلطة الدولة القائمة، ويطرح مطالب استعادة الدولة، دون رؤية سياسية وطنية واضحة لكيفية ومضمون هذه الاستعادة؟.

الثالث عشر: هل في حالة رفض الدولة الاتحادية من ستة أقاليم من قبل أغلبية أبناء الجنوب، سيتم السير في هذا الطريق رغماّ عنهم؟، وهل سندخل من جديد إلى دوامة خطاب «الوحدة بالحرب»، الذي بدأ البعض يردده اليوم؟!.
الرابع عشر : إن إقامة دولة اتحادية من ستة أقاليم عملية معقدة وتحتاج إلى سلطات إدارية راسخة ومرنة، وإلى مؤسسات دولة مركزية حديثة وقوية تتولى الإشراف والترتيب لأوضاع هذه الأقاليم، حتى لا ندخل في دائرة الفوضى والعنف، خاصة في ظل حالتنا الراهنة وغير الجاهزة للأقاليم التي يحتاج توزيعها إلى وضع طبيعي ومستقر اجتماعياً وسياسياً، وأوضاع جيوسياسية وأمنية عادية. والأهم من كل ذلك أنها يحتاج إلى إرادة سياسية وطنية، وهي اليوم غائبة، ولا أعتقد أن أوضاع الدولة الفاشلة، العاجزة والمتخلفة، قادرة على تحمل مسئولية الانتقال إلى دولة اتحادية من عدة أقاليم. ففي دولة اتحادية من ستة أقاليم، كما يذهب إلى ذلك البعض، يعني أننا سنجد أنفسنا أمام عملية لهيكلة بنية ست سلطات وحكومات ومجالس نيابية وشوروية ومحليات، وهو أمر فوق قدرة أي دولة طبيعية وعادية مستقرة، فما بالكم في دولة لم تنجح حتى اليوم في الدخول إلى مشروع الدولة الوطنية الحديثة، وما تزال أطراف المجتمع تحترب فيما بينها، وفي غياب فعلي للدولة، بعد أن احتكرت الميليشيات المجال السياسي والعسكري كله؟!.

الخامس عشر: كان يمكن إعطاء قرار التقسيم مزيداً من الشرعية الشعبية والوطنية، المقصود (التقسيم إلى ستة أقاليم) أن يبدأ ذلك باستفتاء شعبي وطني حوله، وبمشاركة وطنية واسعة في كلٍ من الجنوب والشمال، وبإشراف إقليمي ودولي، شريطة أن تنزل استمارة الاستفتاء للسكان في الشمال بالموافقة على الأربعة الأقاليم، وإلى السكان في الجنوب بالموافقة على التقسيم للجنوب إلى إقليمين، وبذلك تكون نتيجة الاستفتاء هي الأساس الذي يعتمد عليه.

ولا يسعنا في ختام هذه الملاحظات حول قرار التقسيم إلى ستة أقاليم، إلا أن نقول: إنه قرار لا يعكس واقعاً وحالة مشروع قابل للتحقيق في الظروف الراهنة، وهو قرار يتعسف الحقائق والوقائع القائمة، ويتحرك خارج شروط الواقع الموضوعي، وخارج أي إمكانية لتقديم حل سياسي واقعي للقضية الجنوبية، أو للقضية الوطنية عامة، بل هو قرار وحل يضع الجنوب في مواجهة مع الشمال، كما يضع كل منهما في مواجهة مع بعضه البعض، على المدى المتوسط والبعيد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى