الفتوحات الإسلامية.. معركة الحصيد

> إعداد/ هاشم الخضر السيد

> ما زالت السيرة العسكرية للقائد المسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه تقدم الدروس في مجال التخطيط العسكري، والقيادة، والجوانب العسكرية الأخرى، وخاصة في تأمين عوامل تحقيق النصر في المعركة، ومن المعارك الكثيرة التي قادها خالد بن الوليد بنجاح: معركة الحصيد التي وقعت في العاشر من شعبان؛ السنة الثانية عشرة للهجرة؛ وهذه المعركة تشكل نموذجاً متطوراً للدراسة في كبريات الكليات العسكرية في العالم في فن إدارة المعركة القتالية في الصحراء وممن تحدث مطولاً ومراراً عن هذه المعركة: المنظر العسكري الروسي العقيد بروميكوف في كتبه العسكرية التي وضعها للأكاديميات العسكرية الروسية معتبراً هذه المعركة "إبداعاً عسكرياً في مجال فن القيادة كما أظهره خالد بن الوليد؛ إن من جهة دراسة الموقف قبل المعركة بحكمة وعقلانية، أو من جهة التخطيط القيادي المبني على المعطيات والمستجدات
الميدانية..".

المعطيات الميدانية قبل المعركة
كان الجيش المسلم بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه قد استطاع تحقيق جملة انتصارات باهرة في بلاد الشام، وضمن تلك الانتصارات جاء فتح الحيرة ضربة موجعة للفرس والروم معاً؛ إذ كان الطرفان يراهنان على استحالة سقوطها بيد المسلمين؛ نظراً لمناعتها، وقوة تحصيناتها، وبعد سقوطها راهن الطرفان من جديد على أن أهل الحيرة سيثورون على المسلمين، ويخرجونهم منها، ولكن الرهان مرة أخرى سقط؛ فقد اتخذ خالد رضي الله عنه من الحيرة مركزاً لقيادته بعد فتحها، وبعد أن صالح سكانها على الجزية ترك أمر إدارتها لزعمائها المحليين، واستناداً إلى تعاليم الإسلام السمحة أبدى الجيش المسلم الفاتح تسامحاً مع الكنائس المسيحية، ولم يتعرضوا لرجال الدين النصارى، وبعد فترة وجيزة عم الاستقرار والازدهار في الحيرة بسبب استتباب الأمن، ورفع الظلم الذي كان الأهالي يتعرضون له على يد الفرس، وبدأ سكان الحواضر التالية للحيرة يتطلعون بشغف لقدوم الجيش المسلم لتحريرهم أيضاً من استبداد الفرس والروم، بعد أن وصلت إليهم أخبار المعاملة الحسنة التي يعامل بها المسلمون أهالي البلاد المفتوحة.

مستجدات
بعد أن أتم خالد بن الوليد فتح الأنبار وعين التمر استجدت مواقف عسكرية لم تكن في حسبان خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقد جاءته أوامر من الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالتحرك فوراً لنجدة قوات عياض بن غنم رضي الله عنه في دومة الجندل، وكانت "دومة الجندل" إحدى المدن التجارية الكبرى في الجزيرة العربية، وهي مشهورة بأسواقها الكبيرة، كما كانت أيضاً مركزاً هاماً للمواصلات، ونقطة التقاء الطرق القادمة من أواسط الجزيرة العربية والعراق والشام، ومن ثم فقد كانت محط أنظار العرب والفرس على السواء، والاستيلاء عليها غاية يسعى إليها كلا الفريقين، وكان على خالد بن الوليد أن يتحرك مع قواته إلى دومة الجندل مع ما يعنيه ذلك من احتمالات التخلي عن الأراضي التي تم فتحها؛ لأن الفرس كانوا متوثبين لاستعادتها، استرداداً لهيبة الإمبراطورية الفارسية التي ضاعت مع الهزائم المتتالية التي ألحقها
بهم المسلمون.

التعامل مع المستجدات
توجه خالد بن الوليد رضي الله عنه مع القسم الأكبر من جيشه إلى دومة الجندل، وترك قسماً من الجيش في العراق بإمرة القعقاع بن عمرو؛ فظن الفرس بأن خالداً قد انسحب نهائياً من العراق ولم يبق إلا حامية صغيرة؛ ولذلك عزموا على طرد الجيش المسلم من بلاد الشام، واستعادتها من أيدي المسلمين، ولهذا بدأ "بهمن" قائد الفرس ينظم جيشه من جديد، فراح يجمع شتات مقاتليه الذين انسحبوا من الحاميات الموجودة في أجزاء الإمبراطورية الفارسية، ويحشد إليهم المزيد من الجنود الجدد، وانضم إليهم عدد كبير من المتطوعين، ولكن ذلك جعل جيشه أقل كفاءة واستعداداً للقتال من الجيوش الأخرى التي حاربها "خالد" من قبل، واستطاع إلحاق الهزائم بها.

وأدرك "بهمن" بحنكته نقطة الضعف تلك؛ فقرر ألا يزج بهذا الجيش في القتال قبل أن يدعمه بقوات كبيرة من العرب النصارى الموالين للفرس، وقد استجاب له هؤلاء النصارى بعد أن وجدوا أن الفرصة أصبحت سانحة لهم للانتقام من المسلمين، والثأر لمقتل قائدهم "عقة" الذي قتله خالد في عين التمر، وبدأت تلك القبائل العربية النصرانية الاستعداد للحرب.

تخطيط الطرفين للمعركة
قسم "بهمن" قواته إلى جيشين كبيرين، جعل على الأول روزبه، ووجهه إلى الحصيد، والثاني تحت إمرة زرمهر، ووجهه إلى الخنافس؛ وفي الوقت نفسه قرر القعقاع بن عمرو بناء على مراسلات مستمرة مع خالد بن الوليد رضي الله عنه أن يرسل كتيبتين إلى الحصيد والخنافس لتأخير قدوم الفرس في هذين المكانين؛ واحتفظ بباقي الجيش في حالة تأهب؛ استعداداً لأية معركة محتملة لحين قدوم خالد بقواته من الحيرة بعد أن أنهى مهمته في دومة الجندل، وكان خالد قد تلقى من القعقاع بن عمرو تقريراً عن الوضع الميداني، فأرسل إليه يثني على ما فعله، وطلب منه تأخير المعركة ما استطاع، وأن يكون ظاهر تحركات الجيش الإسلامي
موحية للفرس بأنهم سيواجهون فقط هاتين الكتيبتين الموجودتين في الخنافس والحصيد.

وبنى قائد جيش الفرس خططه الحربية على أساس ذلك، وقسم جيشه إلى قسمين رئيسيين؛ كل قسم موكل بمواجهة كتيبة من جيش المسلمين، دون أن يخطر بباله بأن خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد أن حارب بقواته في دومة الجندل قد عاد بتلك القوات إلى الحيرة، وعبر طرق مختصرة لم يسلكها أحد من قبل، وكانت مفاجأة صاعقة للجيش الفارسي والقبائل المتحالفة معه عندما ظهرت قوات المسلمين من قلب الصحراء، ومن أماكن لا يتوقعونها فانهارات معنوياتهم، ووجد بهمن قائد الفرس نفسه أمام وضع مستجد لا وقت لتداركه؛ ولهذا لم يكن أمامه إلا المواجهة وخوض المعركة مع الاستمرار في حشد التعزيزات التي كانت تصل من فارس، وقرر خالد أن يخوض المعركة على طريقته؛ فأعاد جمع الجيش في عين التمر وقسمه إلى ثلاثة ألوية، بعد أن عززه بالقوات التي حاربت في دومة الجندل، وجعل الكتيبة الأولى بقيادة القعقاع بن عمرو، والثانية بقيادة أبي ليلى الفذكي السعدي، وجعل اللواء الثالث في عين التمر.

هذا التجميع السريع للقوى وإعادة تشكيله أثار حيرة قائد الجيش الفارسي، وبحسب
الظاهر اعتقد بأن خالداً قد قرر خوض المعركة في عين التمر بقوة واحدة مجتمعة؛ لهذا بنى خطته على أساس أن يرسل أولاً القسم الأول من جيشه الموجود في الخنافس؛ وبعد أن يلتحم مع جيش المسلمين يرسل القسم الثاني ليشكل مفاجأة لخالد بن الوليد رضي الله عنه.

عامل المفاجأة
ضمن خطة محكمة تستقرئ خطط الخصم وجه خالد اللواء الأول بقيادة القعقاع بن عمرو إلى الحصيد، ووجه في الوقت ذاته اللواء الثاني بقيادة أبي ليلى إلى الخنافس؛ وأمرهما أن يتصديا لجيوش الفرس فيهما في وقت واحد وبسرعة، وتحرك كل من القعقاع وأبي ليلى في طريقين منفصلتين، وكانت المسافة إلى الحصيد أقصر من المسافة إلى "الخنافس"، فلما اقترب القعقاع من الحصيد فوجئت القوات الفارسية بقيادة "روزبه" بضخامة قوات جيش المسلمين على غير ما كانت تتوقعه، فظن روزبه أن كل الجيش المسلم قد توجه إلى الحصيد، فأرسل يطلب النجدة من قائد القوات الفارسية في الخنافس زرمهر، مؤكداً له أن كل جيش المسلمين قد اجتمع في الحصيد، وهو ما شكل حيرة وارتباكاً أيضاً لزرمهر، فالمعطيات التي عنده تقول: إن هناك قوات لجيش المسلمين في الخنافس، وزميله روزبه يؤكد له أن كل الجيش المسلم موجود في الحصيد، وسرعان ما انتقلت الحيرة إلى قائد الجيش الفارسي بهمن عندما أرسل إليه زرمهر يستأذنه بتحريك قواته للحصيد، ووسط هذه الحيرة وغموض حقيقة الموقف بالنسبة للجيش الفارسي اتجه بهمن نفسه للحصيد ليقف على حقيقة الأمر.

معركة الحصيد
وصل القعقاع بن عمرو بقواته إلى الحصيد بتاريخ 12/8/10هـ، وبناء على أوامر خالد بن الوليد بدأ فوراً بمهاجمة قوات الفرس فيها، وكانت قوات الفرس تفوق قوات المسلمين من ناحيتي العدد والعتاد، وعندما وصل بهمن لتفقد حقيقة الموقف وجد نفسه في أتون معركة عنيفة يظهر فيها المسلمون ضروباً من الشجاعة تقابلها معنويات قواته المنهارة، ولم يكن أمامه أي وقت لاستجلاء حقيقة وضع الجيش المسلم، هل هو موجود كله في الحصيد يحارب فيها، أم أن قسماً كبيراً منه في الخنافس، ولم يستطع اتخاذ قرار باستدعاء قواته من الخنافس، وانعكس ذلك على القوات الفارسية، إذ لم يكونوا يدرون إن كانوا يقاتلون كامل الجيش المسلم أم أن هناك قوات كبيرة منه قادمة لتخوض المعركة ضدهم!!
واستمرت المعركة حامية الوطيس، واستطاع القعقاع بن عمرو أن يقتل بسيفه قائد القوات الفارسية في المعركة روزبة، ثم قتل أحد الجنود المسلمين قائدهم الثاني زرمهر، فانهارات معنوياتهم نهائياً، وصار كل واحد منهم ينشد النجاة بنفسه، ويطلب الفرار بجلده، فانسحبوا إلى "الخنافس" تاركين وراءهم أعداداً كبيرة من القتلى، وتحقق النصر للمسلمين في تلك المعركة.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى