ورحل صديق المساكين والمشردين

> د. عبده يحيى الدباني

> صدمني خبر رحيلك أيها الأخ الحبيب والصديق الأول في الحياة فاجأني الخبر كما فاجأك الموت. رحم الله أبا العتاهية حيث قال:
كلنا في غفلة   والموت يغدو ويروح
فوق عيني كل حي   علم الموت يلوح
نح على نفسك يا   مسكين إن كنت تنوح
لست بالباقي وأن   عمرت ما عمر نوح
لقد زاد الجرح عمقا أنني لم أرك منذ سنوات ولم أتفقدك. هنالك في جوالي ما يقرب من الفين رقم ولكن رقمك لم يكن بينها فما هذا؟ هل صرنا جاحدين وعاقين من غير أن نشعر؟ صحيح أنت لا تسأل ولا تتواصل، ولكن كان عليّ أنا وعلى آخرين ممن كان لك فضل عليهم أن نسأل عنك ونتواصل معك ونزورك رغم مشاغل الحياة التي قربت البعيد وبعدت القريب في ظل وجود شبكة التواصل الاجتماعي التي كثيرا ما تسبب التقاطع الاجتماعي خاصة بين الأقارب.

لقد انفرط عقد القرية الذي كان يجمعنا مثل حبات المسبحة وتوزعنا وتفرقنا وتعددت مواطننا وأماكن إقامتنا وأعمالنا وصار أبناؤنا لا يعرفون بعضهم إلا قليلا إذ لم ينشؤوا كما نشأنا في مسرح واحد. جيلنا يا صديقي كان جيلا عجيبا فبه خاصة بدأت الهجرة الواسعة إلى المدن والمهاجر، فنحن شهدنا حياة القرية وأدركنا حياة شيوخها وتركت فينا بصماتها ثم ارتحلنا إلى كل مكان داخل الوطن وخارجه.

سالم ثابت صالح الدباني
من مواليد عام 1960م قرية القرب حالمين، نشأ يتيم الوالدين في كنف عمه الراحل المناضل مطلق صالح الدباني، وفي رعاية جدته أم أبيه رحمها الله التي كانت تعطف عليه أكثر منا بحكم وضعه.
تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة الرباط، والإعدادي في مدرسة الدهالكة في جبل حالمين.

وواصل الدراسة الثانوية في مدرسة البروليتاريا في صبر لحج (معسكر اللواء الخامس حاليا)، لكنه التحق بسلك التدريس قبل أن يكمل الثانوية عام 1981م، فعين معلما في مدرسة حبيل جلدة في حبيل جبر، وبعدها انتقل إلى حالمين إلى مدرسة الكرب، ومن ثم إلى مدرسة الدهالكة.

وفي نهاية 1985م غادر الوطن إلى المملكة العربية السعودية عبر الجمهورية العربية اليمنية طلبا في تحسين وضعه المعيشي، وعمل هنالك وكد وشقي طويلا إلى قبل عام تقريبا، فعاد إلى الوطن عودة نهائية ليموت ويدفن في ثرى وطنه.
متزوج وله ولدان وبنتان.

كان الفقيد العزيز صديقا حميما للمساكين والمشردين وعابري السبيل يرعاهم ويتعاطف معهم، ولكن حين يستغنون عنه يستغني عنهم حتى إذا احتاج إلى أحد منهم حين تتحسن أوضاعه. كان له فضل على كثيرين لكنه لم يسمح لأحد أن يكون صاحب فضل عليه.

لقد كان قليل التواصل مع الناس حريصا على ما ينفعه غير مبال بمعرفة فلان أو بمجاملة علان مقتنعا بما لديه زاهدا في بهارج الحياة ومتاعها الزائل يغنيه الذي  يكفيه ولا يحب المغامرة والشهرة رحمه الله تعالى.
كان رأس ماله 700 غرام من الذهب لا يريدها تزيد ولا يريدها تنقص، فكل فوائدها تذهب مصاريف لأولاده ولبناء منزل لهم.

أصحاب الغرامات الذهب صار بعضهم أصحاب كيلوهات ذهب، وارتد بعضهم إلى  درجة الصفر، ودخل السجن منهم من دخل بسبب مغامرات وديون، وصاحبنا يدور حول الـ 700 غرام وتدور حوله، يتاجر بها بجيبه خفيفا من الهم والخوف والقلق، فغرام ذهب عنده يساوي غراما من الهم والقلق، وربما أكثر في جو سعودي مشحون بقوانين متعسفة ومتربصة.

يفطر على حبة تميس وفول وكأس شاي، ويضيف من كان عنده من المشردين بمثل ذلك فمن ساواك بنفسه ما ظلمك.
كان راضيا بوضعه ذلك شاكرا لخالقه رحمه الله.
أما عن علاقتي به فهو ابن عمي يكبرني بسنوات قد تصل إلى السبع؛ لكننا نشأنا في مسرح واحد هو مسرح القرية وفي زمن واحد.

ميزة ابن العم عادة أنه يجمع بين الأخ والصديق، وهذه الصفة لا توجد عند الأخ إلا في حالات نادرة خاصة عندما يكون عمر الأخوين متقاربا جدا؛ فالأخ الأكبر لا ينفتح على أخيه مثل الصديق بحكم حرص الأخ وسلطان الإخوة وغير ذلك من الرسميات الأسرية إذا صح التعبير. لكن ابن العم يجمع بين الأمرين كما ذكرت؛ فليس له سلطان الأخ الأكبر وهيمنته ولكنه يملك مشاعر الإخوة وحدبها، إن مكانة ابن العم مكانة خاصة لا يشغلها غيره. لقد قيل إن العم والد والخال والد، وأنا أقول إن ابن العم أخ وقس على ذلك من هم في مكانته.

من هنا كان سالم أخي وصديقي أتعامل معه بتلقائية كصديق وبثقة كأخ، وكان يحس بوحدتي وبؤسي بعد رحيل الوالدة واغتراب الإخوان وانشغال الوالد. كان يتعامل معي باريحية وحميمية وعطف واهتمام.
كان يقهقه ضاحكا حين يجدني أطرب طربا واضحا لأغاني أبي بكر سالم والمرشدي ومحمد سعد عبدالله ولسان حاله يقول ما دخل هذا الصبي بهذه الأغاني؟ ويقول أحيانا هذا الولد عميق! وهذه كانت أول إشارة إلى ميولي المبكرة نحو الأدب.

في أيامه الأخيرة في مدينة الحبيلين كان يهمس في أذن من يقابله ممن يعزون عليه ويخبرهم انه عما قريب سيموت كأنه استشعر أنه سيموت فجأة في سكتة قلبية قاتلة.

في أيامه الأخيرة كذلك كان يردد وهو مبتهج: رجع الجنوب رجع الجنوب! لقد عاد الجنوب يا صاحبي بينما عادت روحك إلى بارئها وهذا عزاؤنا وعزاؤك وإنا نحتسبك عند الله من شهدائه الأبرار.
فهل يا ترى ستسامح ابن عمك الدكتور البروفيسور الذي غفل عنك وتركك تصارع الموت لوحدك وتتناوشك الأمراض؟
لقد انشغل عنك وأنت معلمه الأول ومدرسته الأولى في الحياة. فما ذكرتك منذ رحلت إلا بكيت ودعوت لك في ظهر الغيب صادقا.
سلام عليك فقد عشت غريبا ومت غريبا فطوبى للغرباء.
رحمة الله تغشاك وبلطفه نلتقي ونرتقي في جنات النعيم.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى