العقدة القديمة لبعض الكتّاب الشماليين على صحافة عدن ومثقفيها

> كتب/ د. أحمد باحارثة

> صحيفة فتاة الجزيرة وصاحبها لقيا النصيب الأكبر من نفثات أقلامهم
درج بعض كتاب المنطقة الشمالية الغربية من اليمن يتهكمون بمثقفي عدن في فترة الثلاثينيات والخمسينيات لنسبتهم أعمالهم وذواتهم إلى عدن (العدني)، ويجعلون من ذلك سبيلاً للمزهم في وطنيتهم وصدق انتمائهم للوطن اليمني الكبير.
ولأن صحيفة (فتاة الجزيرة) هي أزهى صحف عدن آنذاك، وأكثرها ثراء بشهادة جميع مؤرخي الحركة الثقافية فقد لاقت النصيب الأكبر من نفثات أقلامهم، لأنها تحدّت عقدة تفرد الشمال بالأفضلية المطلقة على المستوى الوطني، وإذا بأحدهم يكيل اللمز والغمز للصحيفة وصاحبها ومحرريها، قائلاً: "لابد أن نقف أمام بعض التسميات أو الصفات التي كانت تطلقها الصحيفة أو بالأصح محرروها بقصد أو بغير قصد، مثل (العدنيين) و(عدن واليمن) و(اليمن وحضرموت) و(نحن العدنيين)، إلى آخر هذه التسميات التي لا تعني شيئًا سياسيًا أو جغرافيًا، والتي كانت تسيء إلى الصحيفة وإلى صاحبها الجليل رحمه الله، ونحن وإن كنا لا نستطيع أن نحاكمه وهو الأربعيني بمفهوم السبعينيات، إلا إننا كنا نتمنى أن تكون صحيفته أول صوت يحتضن اليمن الكبير، اليمن الواحد دون تفريق بين المدينة والريف، بين أدنى الوطن وأقصاه، ولو كان هذا الوعي الوطني قد تبلور منذ صدور هذه الصحيفة لما واجهتنا الأيام بالمواقف الانفصالية والدعوات التجزيئية الضيقة".
سياسات دولة ما بعد 94 سارعت لتهميش كل ما يرتبط بثقافة عدن
سياسات دولة ما بعد 94 سارعت لتهميش كل ما يرتبط بثقافة عدن

عصبية مناطقية
لقد قام الكاتب بعقد محاكمة غيابية لصاحب الفتاة ومحرريها الذين انتقلوا إلى رحمة الله، سرعان ما أصدرت أحكامًا غير قابلة للاستئناف أو النقض بتثبيت التهم المنسوبة للمرحومين وهي: (الإساءة) إلى الوطن بمحاولة تمزيقه (سياسيًا أو جغرافيًا)، وزرع التمايز و(التفريق) بين مواطني (أدنى الوطن وأقصاه) على أسس (مناطقية)، وكذا تعريض الوطن لمخاطر (الانفصال والتجزئة).

وإنني في الحقيقة حمدت الله أنه بعد قوله "هذه التسميات التي لا تعني شيئًا سياسيًا أو جغرافيًا" تفادى أن يقول "وتاريخيًا!!" على ما تنطوي عليه هذه العبارة من احتقار لمناطق شاسعة عزيزة من وطننا الكبير، ولكن أقول كما قال تعالى "ولتعرفنهم في لحن القول".
لكن مما يدلل على العصبية المناطقية الجهوية للشمال ضد سائر الوطن اليمني هو إيهامه أن تلك الصحيفة (فتاة الجزيرة) قد انفردت بسرد تلك التسميات أو الصفات التي لا تعني شيئًا، أو أنها مؤامرة قد تواطأت عليها صحافة عدن، فبإلقاء نظرة عابرة على صحف المنطقة الشمالية الحاصلة على شهادة حسن السلوك الوطني الصادرة من دائرة الوطنية الشمالية لعلنا نقتبس منها نورًا من التسميات والصفات الوطنية، ولاسيما صحيفة الأحرار الذين يتقدمهم الزبيري، وهي صحيفة (صوت اليمن) الصادرة في نفس الفترة، سنصاب بخيبة أمل، حينما تفاجئنا تلك التسميات والصفات التي لا تعني شيئًا ماثلة في صفحاتها!! فهذا خبر منشور في الصحيفة الصوتية يقول "أقام نادي الاتحاد الأغبري في التواهي حفلة شاي .. حضرها كثير من الشباب اليمني والعدني"، وفي خبر عن احتفال آخر في عدن تقول الصحيفة ذاتها "حضر الاحتفال عدد كبير من اليمانيين والعدنيين" وهذا على سبيل المثال فقط ومثله كثير وفير.

فأين ذلك الكاتب الذي نصب من نفسه مفتي الوطنية في الديار اليمنية من هذا كله؟ ما له لم تهتز له شعرة، ولم ينبض له عرق تجاه تلك الصحيفة ومحرريها وصاحبها الجليل؟! لِم لم يطلق تساؤلاته تلك، فهل كان محررو (صوت اليمن) يطلقون تلك التسميات والصفات "بقصد أو بغير قصد"؟ وهل هي كانت تسيء إلى الصحيفة وصاحبها الجليل رحمه الله؟ وكيف تمنى ذلك الكاتب لصحيفة فتاة الجزيرة التي يديرها عدنيون مشكوك أصلاً في وطنيتهم أن تكون هي أول صوت يحتضن اليمن الكبير، وغفل عن (صوت) جماعته من (أحرار الشمال)؟ ومن أي الفريقين سيكون إطلاق تلك التسميات والصفات التي لا تعني شيئًا أشد قبحًا، من أولئك القادمين من (اليمن المتوكلية المستقلة) أم من هؤلاء القابعين في المستعمرة البريطانية؟ ومن ثم من الأولى أن يتحمل تبعة ما وصفه كاتبنا "بالمواقف الانفصالية والدعوات التحزيبية الضيقة"؟!

إنني هنا لن أشير إلى ما تردده بعض الكتابات عن علاقات مشبوهة كانت بين المستعمر البريطاني للجنوب وجماعة الأحرار الفارة من الشمال، لكننا نسأل من هو أحق بالمحاكمة والتقريع، من حملت صحيفته اسمًا محدودًا لجزء محدود من جزيرة العرب، أم من شمل باسم صحيفته كل الجزيرة العربية؟ فعلى الأقل يمكن أن نقول إنه بمسمى (الجزيرة) دخلت جميع أجزاء اليمن الكبير أما الصحيفة الأخرى فكان عنوانها (تجزيئيًا ضيقًا)؛ إذ كان يدل على جزء من جزء من جزء، أي على الشمال الذي هو جزء من اليمن التي هي جزء من الجزيرة، فأي الفريقين أحق بالوطنية وأيهما كان أشمل نظرة وأوسع أفقًا.

محمد علي لقمان
محمد علي لقمان
إنني كذلك أستطيع أن أدعي جازمًا أن شاعرنا العظيم محمد محمود الزبيري لو قدر له أن يحيا لفترة من الزمن واطلع خلالها على ما قيل بحق صحيفة (فتاة الجزيرة) وصاحبها ومحرريها لأنكرها وندد بها وسفه كاتبها وتبرأ منه، لكن لماذا نذهب بعيدًا، فلنرجع إلى صحيفة (صوت اليمن) أو صوت الشماليين الوطنيين لنعرف موقف هؤلاء من صحيفة (الفتاة) وصاحبها، فنجد أنها تصف محمد علي لقمان (صاحب فتاة الجزيرة) بالأستاذ الكبير وتصف جريدته بـ "المجاهدة في محاربة الطغيان والاستبداد الضارب أطنابه في جنوب الجزيرة"، وفي موضع آخر تصرح الصحيفة باهتمامه بقضية الشمال وذلك في سياق خبر عن حفل لمحرري (الفتاة) حضره الأحرار الذين عدوا حضورهم "مجاملة كريمة من اليمانيين عرفت الأستاذ لقمان بأنهم يقدرون جهاده في سبيل قضيتيهم ومشاركته لهم في آلامهم وأمانيهم".
مبنى تلفزيون عدن
مبنى تلفزيون عدن

تهميش كل ما يرتبط بثقافة عدن
هذه هي صحيفة (فتاة الجزيرة) وصاحبها الجليل ومحررها الأجلاء الذين أساء إليهم بعض كتاب الشمال فغمزوهم في وطنيتهم وحملوهم تبعة (المواقف الانفصالية والدعوات التجزيئية الضيقة)، وهؤلاء هم مثقفو عدن يحتضنون إخوانهم الفارين على وجوههم من الشمال ويشاركونهم في آلامهم وأمانيهم ويواسونهم بالكلمات والقصائد الوطنية كما هو حال علي لقمان ولطفي أمان.
تغيير اسم قناة عدن أحد أساليب التهميش
تغيير اسم قناة عدن أحد أساليب التهميش

ولقد انعكست تلك العقدة تجاه عدن ومثقفيها على سياسات دولة ما بعد 1994 فسارعت بتهميش كل ما يرتبط بثقافة تلك المدينة الحضارية في كل أطرها الثقافية والإعلامية والتعليمية، وصارت تنظر إلى كل مثقف عدني بوصفه صورة من لقمان، وكل نشاط ثقافي وإعلامي بعدن وكأنه نسخة من صحيفة فتاة الجزيرة، وبهذا نستطيع مثلا فهم ما جرى من تعسف لوزارة الإعلام على المنابر الإعلامية في عدن وروادها، ولاسيما صحيفة "الأيام" آنذاك، ومحاربة إطلاق اسم عدن على تلفزيون القناة الثانية، ومصادرة أرشيفه التاريخي، وعدم السماح بالبث المباشر للقناة فضائيًا حتى تمر بسدنة الوطنية في صنعاء، وغير ذلك مما هو معروف ومتداول بين مثقفي عدن (المشبوهين وطنيًا).​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى