يوما من أيام عدن البهيجة

>  سعدت كثيرا صباح الأحد الموافق 19 أكتوبر، وتشرفت حين حضرت حفل تخرج الدفعة السادسة والثلاثين من قسم الميكانيكا العامة في كلية الهندسة جامعة عدن، فقد حضرت بصحبة ولدي عبدالله عبده الدباني وفقه الله أحد خريجي هذه الدفعة المباركة التي انخرطت في سلك التعليم الجامعي للعام
2014م 2015م حين انخرطت البلاد كلها في سلك الحرب والدمار؛ بيد أن هذه الدفعة تخرجت بعون الله تعالى بينما البلاد لم تخرج من الحرب ولم تتخرج الحرب من معهد الجنون والأنانية والمصالح غير المشروعة لدى الكثير من أطرافها في الداخل والخارج؛ إذ يبدو أن هذه الحرب لا تبتغي شهادة بكالوريوس في الدمار والخراب ولكنها تسعى إلى شهادة عليا في هذا المجال الكارثي.

ومع هذا كله فإن عدن ومعظم محافظات الجنوب التي تتخرج فيها ومنها هذه الدفعة من المهندسين الأحباء قد تحررت في العام الأول من الحرب وطردت الغزاة وطبعت الأوضاع رغم جنون التربص والإرهاب والفساد والإفساد وخرجت حينها دفعة من خيرة أبنائها شهداء زفتهم إلى جنات النعيم إن شاء الله.

نحتفل اليوم بفضل المولى تعالى ثم بفضل ذلك الرعيل من الشهداء الأبرار الذين يشبهون هؤلاء الخريجين من حيث أعمارهم وملامحهم وتعطشهم للحياة والتعليم.
لكن حب الوطن والعيش بكرامة كانا أكبر من أي رغبة في البقاء من غير وطن ومن غير كرامة. فاختاروا أن يخلدوا هنالك عند ربهم يرزقون.

لكم وددت أن يبدأ الحفل بقراءة الفاتحة على أرواح أولئك الفتية والرجال الأبطال الذين دفعوا أرواحهم ثمنا لعزتنا وكرامتنا؛ الذين ينبغي علينا جميعا ألا ننسى أهلهم في زحمة الحياة والتحولات المختلفة؛  فرعاية ذويهم واجب وطني وأخلاقي وسياسي.

كان الحفل لوحة جنوبية ناطقة مؤثرة من حيث فقراته غناء ورقصا وتمثيلا ومن حيث الرعاية الكريمة لقيادة المجلس الانتقالي الجنوبي لهذا الحفل الطلابي البهيج وحضور بعض رموزه وقياداته
لمشاركة الطلاب فرحتهم، فقد حضر في أول الحفل الأستاذ فضل الجعدي، مساعد الأمين العام للمجلس الانتقالي الجنوبي؛ وفيما بعد وصل الأستاذ أحمد حامد لملس الأمين العام للمجلس والأستاذة نيران سوقي عضو هيئة رئاسة المجلس وعدد من المرافقين من دوائر الأمانة العامة، وكذا بعض رفاق السلاح الجنوبي وفي مقدمتهم الأخ علي عسكر قائد لواء الشهيد أبو اليمامة.

 مرت الدقائق مسرعة ونحن نحتفي بطلابنا أبنائنا ننتقل من فقرة إلى فقرة مع الشاب المتألق الذي أدار الحفل بمهارة عالية، لقد تأكد لي أكثر ضرورة حضور اللغة العربية وألقها وأدبها وشعرها في مثل هذه المقامات. كان طلقا يغرف من ماء الشعر والنثر والدعاء والأمثال أثناء التعليق والتقديم. لقد نسيت اسمه؛ يا لنسيان الأسماء!! ....أجل لقد تذكرت اسمه إنه الشاب يزيد الربيعي وفقه الله.

كشف الحفل أن هذه المدينة دائما متجددة الإبداع والحضور والبديهة؛ مهما اشتدت عليها المحن. فقد شهدنا غناء جميلا ورقصا منعشا ومسرحية بطعم عدن؛ لهجة وفكاهة وأخلاقا واعتدالا، بيد أن القصيدة غابت عن حفل المهندسين؛ لكن بلاغة المقدم قد سدت ذلك الفراغ نوعا ما.

لم أر حضورا لعمادة كلية الهندسة ولا لكادرها الأكاديمي، لكن حضور الدكتور الأستاذ فضل العبادي  رئيس قسم الهندسة الميكانيكية كان مشرقا مثل روحه البهيجة وإلى جانبه د. عادل سلام وزملاء آخرون من كليات أخرى.

أما أهالي الطلبة الخريجين فقد ازدهت بهم القاعة وتألقت: أمهات وآباء وأخوات وزملاء وأطفال. كانت الفرحة بادية على ملامح الجميع، لم لا؟ ونحن في يوم فرح في مدينة عرفت بالفرح والبهجة منذ القدم ولاتزال تهزم الحزن واليأس والموات كل يوم؛ وتنتصر للحياة. أجل إنها عدن نصيبنا من الدنيا ومن البر والبحر.. عاصمة الجنوب وحاضرة المحبة والإنسانية. وهي نصيبنا في الآخرة بعون الله نسكنها بتسكين دالها!!

همس لي أحد الحاضرين مازحا: كم عدد طلاب تعز من هؤلاء الخريجين؟  فقلت يا عزيزي ليس هذا وقت مثل هذا السؤال؛ فهؤلاء كلهم طلابنا وأبناؤنا، وعدن وجامعة عدن تتشرفان بتدريس وتخريج أي طالب علم حتى لو جاء من جزر القمر أو الصين أو من أقصى الأرض. المهم في الأمر هو وضع  القوانين المنظمة للدراسة في جامعة عدن من داخل الجنوب ومن خارجه سواء في هذه المرحلة الانتقالية أو بعد قيام دولة الجنوب بعون الله تعالى.

 استحسن محدثي الكلام وقال إنما أنا أمزح، أما أنا فلم أجد في كلامه نزعة عنصرية من تعز وأهلها كما قد يفهم البعض ولكنه يشير إلى كثرة الطلاب عادة من هذه المحافظة الشمالية الجارة سواء في جامعات الجنوب أم في جامعات الشمال وحتى في جامعات أخرى.

وحين آن وقت تكريم الطلاب نادى المقدم البليغ بأسماء من عليهم أن يتفضلوا ليصعدوا إلى المنصة لتكريم طلاب الدفعة المحتفى بهم، فذكر في مقدمتهم أمين عام الانتقالي الصديق أحمد لملس والزميلة نيران سوقي وعددا من الزملاء في كلية الهندسة.

(لا أخفي عليكم) أنه كان بودي أن أكون ضمن الذين صعدوا إلى المنصة ولكن لم يناد باسمي؛ وقد كنت في الصف الأول أمام المنصة. فقلت في نفسي لا بأس، البركة فيمن صعدوا للقيام بالواجب، فما أن رآني د. فضل العبادي حتى استدرك الأمر متأسفا وطلب من مقدم الحفل أن يدعوني للمشاركة في تكريم المهندسين المتوجين ساعتها. كنت اعتذرت وتباطأت نوعا من العتب لكن الأمين العام كرر الدعوة بإشارة محبة وتشجيع فصعدت معهم وكان لي الشرف في ذلك. 

دخلنا في موجة من الصفاح والعناق والتكريم والتصوير. سبحان الله وجوه وأجسام متشابهة، سواعد قوية صلبة نحيلة تلك التي صافحتها في أكثرها. ما هذا القاسم المشترك بينهم؟!
هل لأنهم التحقوا ودرسوا وتخرجوا خلال سنوات الحرب التي لم تتوقف بعد؟
أم أن الدراسة نفسها نالت منهم ما نالت فوق السبب الأول؟
لكن الشباب جمال بحد ذاته كيفما كانت الأجسام والصور وصدق أبو العتاهية حين أنشد يوما يا للشباب  المرح التصابي روائح الجنة في الشباب.

انتهى التكريم وبه انتهى الحفل البهيج فلمعت فلاشات كثيرة أضاءت الوجوه المضاءة أصلا، وتعانقت قلوب حميمة وانهمرت دموع فرح... بيد أني كنت من أوائل المغادرين للقاعة أنا وعائلتي فلم أشهد ما تبقى هنالك من تفاصيل حميمة تحدث عادة بعد نهاية مثل هذه المناسبات التي يلتقي فيها الرسمي والإنساني في بوتقة واحدة.

تركنا عبدالله مع زملائه -فهم كذلك أسرته- وعدنا إلى المنزل، في حين كانت تتصاعد احتجاجات من داخل السيارة وترفع شعارات تطالب سلميا بغوداء سفري من شواطئ عدن. حاولت امتصاص كل ذلك وقد اسعفتني كلمة قالها الشهيد علي عنتر رحمه الله يوما حين جاءته أم ردفان رحمهما الله تطالبه أن يذهب بالأولاد ليتغدوا  في (العروسة) بمناسبة نجاحهم ذات عام؛ فقال للأولاد بحزم جائزتكم اليوم وعزومتكم ستقدمها لكم جدتكم. ولم تكن تلك الجائزة والعزومة غير عصيد ضالعية تصنعها الجدة العريقة رحمها الله.

هدأت الاحتجاجات بعض الشيء ولكن لا مفر من تنفيذ الطلبات في موعد قريب بعون الله.
خالص التبريكات لجميع الطلاب الخريجين المحتفى بهم اليوم، أسأل الله لهم التوفيق وأوصيهم بضرورة
التطبيق، فقد غلب على دراستهم الجانب النظري على حساب الجانب العملي الذي بدأ في الانحدار في التعليم العام والجامعي منذ حرب احتلال الجنوب عام 1994م حتى كاد ينهار في السنوات الأخيرة إن لم يكن قد أنهار تماما.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى