يوميات العم صالح

> العم صالح شخصية واقعية.. وليست القصة هنا من بنات أفكاري، اتصل بي اليوم مرات عدة، وهو لأول مرة يتصل بي، مع أنه صاحبي وجاري وفي مقام الوالد.
العم صالح طيب ومسكين ولكن إهمال كلامه كله ليس من الحصافة ولا من الحكمة.. لديه فلسفة خاصة للأمور نتفق معها ونختلف، وله آراء في السياسة مقتنع بها.

إنه رجل بسيط، لكن له خبرة طويلة في الحياة، فقد عمل سنين عديدة جندياً في وزارة الداخلية، فهو من عساكرها الأوائل في زمن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

د. أحمد الدباني مع العم صالح
د. أحمد الدباني مع العم صالح

العم صالح مسكون بحب الجنوب، حب ممزوج بالقلق والحرص والهواجس. مشكلته كذلك أنه يتابع إذاعة (بلقيس) الإخوانية المتوكلية الكرمانية، فينزعج من أخبارها الكاذبة مصدقاً إياها، إلى هذا الحد أو ذاك. قلت له مرة ياعم صالح الله يحفظك لا تسمع لإذاعة بلقيس هذه سوف تربشك، قال: وماذا اتسمع؟ هو طبعاً يتابع إذاعة (هنا عدن) لكنها أحيانا تتوقف فلا يجد أمامه إلا (بلقيس).

الإخوان أفسدوا علينا حتى الاسماء والرموز  ، من سهيل إلى بلقيس وغيرهما وياما (تشعبطوا)  بعدن في مسمياتهم .

عمي صالح منزله سيارته؛  فيها يقعد نهارا وعلى سطحها ينام ليلا...يعمل حارسا  لإحدى  البنايات -قيد الإنشاء -في الحي فإذا ترك السماع إلى القراءة اشترى صحيفة (عدن الغد) فيزداد لديه  منسوب القلق ، فما أن اخرج من المسجد بعد كل فرض حتى يمطرني بالأسئلة ويرمي علي هواجسه ومخاوفه. قلت له ياعم صالح (انت مش ناقص ) فاقرأ صحيفة  (الأيام)  وتابع  إذاعة (هنا عدن)  وباب تجيك الريح منه سده واستريح ، لكن الأبواب والنوافذ مفتوحة كلها عند عمي صالح  فهو يتلقف الأخبار أكثر مني كما يبدو فهو الذي  يقعد أكثر في المطعم او في المقهى أو في الطريق وهو الذي يسمع الإذاعات المختلفة ويقرأ الصحف،  أما القنوات فلا يتابعها إذ ليس لديه تلفزيون ولا غرفة مستقلة لذلك . لقد سلم كل شيء لأولاده وبناته وبقي هو يعيش وحيدا.

العم صالح عافاه الله يسكنه الجنوب كله ولكنه من غير سكن ، سيان عنده تشتغل الكهرباء أو تنطفي فسقفه السماء ومرقده سطح سيارته التي تشبه البيت؛  لكن اليوم بالذات كان منزعجا فوق اللازم لهذا لم يكتف  بتوجيه الأسئلة لي على قارعة الطريق بعد كل صلاة تقريبا  إذ إننا نصلي في مسجد واحد؛  ولم يكن في كل يوم منزعجا فأحيانا أجده فرحا مبتهجا حين تكون يومياته أخبارا  سارة بشأن الجنوب سواء أكانت ميدانية أم  سياسية.

يطلب مني في كل مرة ان أبلغ الوفد الجنوبي في الرياض أن يقولوا كذا وكذا  وأن ينتبهوا لكذا وكذا وأن لايوافقوا على كذا وكذا،  هو يحسب أن الخط مفتوح بيني وبين رئيس الوفد وأعضائه في جدة ويظن أنهم لم يضعوا حسابهم للأمور التي يخشاها ويحذر منها، وكم قد قلت له أن الرئيس القائد عيدروس الزبيدي -سدد الله خطاه- ورفاقه من أعضاء الوفد عند مستوى المسؤولية إخلاصا وكفاءة .

ويلقاني في اليوم الثاني فيبادرني هااه  هل كلمت الجماعة الذين في الرياض?
- يا عم صالح هؤلاء زملاء لي ورفاق درب وليس بيني وبينهم حواحز، ولكن هنالك قنوات رسمية للتواصل معهم.

العم صالح لا يتعامل مثلنا بدبلماسية وتحفظ مع الذين يخالفونه الرأي، فهو يجادل هذا وذاك هنا وهناك يتفق مع هذا ويختلف مع ذاك ولا يهمه الأمر، لكن ذلك يزيد من قلقه وتوتره لأن بعض الذين يجادلونه يسمعونه أخبارا تضعف معنويته، فيقع كل ذلك علي أنا حين يلقاني، ومع أنني لا أصدق هواجسه بشكل عام لكنه بعض الأحيان ينجح في نقل عدوى القلق إلي.

صباح الخير يا عم صالح كيف أصبحت وكيف الأخبار؟
فتنهمر أسئلته ومحاذيره وهواجسه. لو أن كل جنوبي حرص على قضيه الجنوب مثل العم صالح لكان الخميس القادم هو يوم إعلان قيام دولة الجنوب المستقله وعاصمتها عدن وأول رئيس لها عيدروس الزبيدي.

وقبل أن اتجاوزه مودعا استوقفني قائلا:
* كلم الجماعه لا يسلموا المطار للقوات السعودية.
* ولا يمكنوهم من دخول معسكر العند.
* شوف السعودية قد بدأت سرا تتفاوض مع الحوثيين وسوف يجتمعون كلهم لغزو الجنوب.
* أنتم يا أصحابنا راقدين والجماعة يخططوا ويجهزوا والسعودية ليس عليها أمان.
* شوف علي محسن الأحمر قال لسعودية نحن لن ندخل صنعاء إلا إذا سلمتمونا الجنوب.
قاطعته. يا الله ماهذا الكلام كله ياعم صالح ارحمني قليلا من الصبح سياسة  وحرب.!

عاد المصلون إلى منازلهم فرحين بعودة الكهرباء، وعاد عمي صالح بسيارته إلى سيارته نفسها حاملا قلقا ثقيلا على مصير الجنوب في بحر المصالح الداخلية والإقليمية والدولية المتلاطمة.
كانت الغرفه باردة  حاولت أن أنام ولكن صوت العم صالح المشحون بالقلق يتسلل إلي .

قد يبدو  كلامه الأخير بسيطا وساذجا في عالم السياسة  وربما مملا، ولكن من يدر؟ ومن يضمن؟ ففي نهاية عام 1989م وبداية عام 1990م طال ما حذر الأجداد والآباء من الوحدة مع الشماليين ولكن لم يسمع لهم أحد؛  فقد تلاشت اصواتهم في ضجيج الشعارات الوحدوية  الجوفاء الفارغة التي لم تتلاش  إلا بأصوات طبول الحرب القادمة من الشمال.

وليس العم صالح إلا واحدا من أولئك الآباء والأجداد مع تغير الزمن وموازين القوى وطبيعة المحاذير .​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى