محتالون يجمعون تبرعات باسم هؤلاء العجزة (1-2)

> تقرير/ فردوس العلمي

>
رحلتني بين حكايات عقوق الأبناء أبدأها من داخل دار المسنين الواقع في مديرية الشيخ عثمان بالعاصمة عدن، حيث يقبع نزلاء من كبار السن (رجال ونساء) تعرضوا لجحود فلذات الأكباد وتقلبات الزمن.
من ينظر إليهم يرى في ملامحهم القهر والشرود، فهذا قاعد على كراسيه المتحرك، وذاك متكئ على جدار، وآخر غارق في تفكيره يقلب صفحات ماضيه الجميل في محاولة منه للخروج من واقعه المر.

بعضهم يتحدث بشكل طبيعي عن حياته السابقة تعكسها صفحات وجه بتهلل وسرور، وإذا ما وصل شريط ذكرياته إلى البداية التي وصل بسببها إلى دار المسنين يعبس وجهه وسرعان ما تتغير ملامحه.
بعضهم تم إحضارهم بواسطة أبنائهم، وآخرون من قِبل إخوانهم أو أهل الخير.. فإن اختلفت الأسباب والدوافع لكن يبقى المصير واحد هو "دار المسنين".

من يدخل إلى هذا الدار يرى الخضرة أمامه إذ تم تخصيص مساحة فيه لتربية الطيور والحيوانات مثل الماعز والدجاج والأرانب؛ ليستفيد منها نزلاء الدار في التغذية ولكي تعطي الخضرة شعوراً بالراحة النفسية.

66 نزيلا
يبلغ عدد نزلائه من الرجال 48 مسناً، ومن النساء 18 امرأة، أغلبهم في أرذل العمر تظهر عليهم نظافة البدن والملبس، كما تظهر جلية النظافة في أقسام الرقود، والأمر ذاته في مبنى الأقسام والإدارة، ورائحة الطعام هي من تدلك على موقع المطبخ وفيه طعام شهي وأكل مخصص كذلك لبعض المسنين.

كان أول سؤال توجهه «الأيام» لمدير دار المسنين، علي عيدروس، حول الأشخاص الذين يطالبون عبر "الفيس بوك" بتقديم الدعم للدار والتي تزايد بعد الأحداث الأليمة التي شهدها الدار من اقتحام وقتل لبعض طاقمه وهل هو على علم به؟ فأجاب مستغرباً بعدم علمه بذلك، ومؤكداً بأن إدارته لم ترسل أحداً ليتحدث باسم الدار بذلك الخصوص، واستدرك بالقول: "ولكن هناك بعض الزوّار أو المبادرات ممن يأتون إلينا ويسألون عن احتياجات الدار ويقومون بتوفيرها بحسب الإمكانات المادية المتوفرة لديهم".
وعن كيفية وصول المسنين إليه، قال: "البعض يأتي بمعية أفراد من أسرته كابنه، أو أخيه أو أخته، أو بواسطة رجال الخير، ويتم تركهم هنا دون أي زيارة من قِبل البعض أو زيارات متقطعة من آخرين"، لافتاً إلى أن أحد الأسباب في ذلك هو عدم تقبله من قِبل زوجة الابن أو الابن بذاته.
ووفقاً لعيدروس، فإن الإدارة تستقبل النزيل في حال وجود سعة سريرية بعد إخضاعه لفحص طبي.
إعداد الطعام في دار المسنين
إعداد الطعام في دار المسنين

وأوضح بأنه تجرى في الوقت الحالي في الدار عمليات ترميم وإعادة بناء وتوسعة لقسم النساء بهدف استيعاب مزيد منهن، ويعشن في الوقت الحاضر في قسم صالة التغذية مؤقتاً حتى يتم استكمال بناء القسم الخاص بهن، بحسب قوله.
وطالب مدير الدار في ختام تصريحه لـ«الأيام» الأبناء العاقون لإبائهم بأن يتقوا الله في مَن ربوهم وتعبوا عليهم أثناء طفولتهم حتى كبرهم.

تقلب الأحوال وتبدلها
فهمي علي سالم
فهمي علي سالم
يقول أبو أحمد فهمي علي سالم، وهو أحد نزلاء دار المسنين: "لا تسألني كيف وصلت إلى هنا؛ ولكن اسأليني كيف وصلت اليمن إلى ما هي عليه الآن؟".
أبو أحمد كان موظفاً في إحدى شركات البترول الخاصة بالتوزيع في الخليج، ثم عاد إلى البلاد في زيارة غير أنه لم يتمكن من العودة بسبب حرب الكويت، كما يقول.

وعن السبب الذي أوصله إلى دار المسنين، قال: "أصبت بمرض القلب فذهبت إلى صنعاء للعلاج ومن ثم أصبت بالسكري، وأثناء فترة الحرب كان ابني مسافراً وزوجته - جزاها الله خيراً - عندما رأت حالتي المرضية قد تدهورت والبيت غير جاهز للسكن خافت عليّ وأتت بي إلى هنا بعد أن أخبرتني أن هذا المكان مناسب لي، كما سألتني من قبل إن كنت موافقاً أم لا".

وعن عدم عودته للبيت، أوضح بأن خدمة الكهرباء في الدار متوفرة بشكل مستمر بخلاف بيت ابنه والذي لا يستطيع السكن فيه لعدم مقدرته على تحمل الحر، وطالب أبو أحمد عبر «الأيام» من الحكومة اليمنية بصرف حقوقه المشروعة والقانونية.

شرود
في الدار توجد عدد النساء يظهر عليهن الشرود والسرحان، وبحسب إفادة الممرضات فقد أوتي بهن من مستشفى الأمراض النفسية، واحدة منهن سريرها عبارة عن قفص من حديد وضع لحمايتها وحماية الأخريات.
أمنة هي إحدى نزيلات الدار القديمات (في العقد التاسع من العمر) لا تتحدث عن أبنائها، وكل حديثها عن والديها كأنها ما زالت طفلاً تتكلم عنهما باستمرار حتى تغلبها الدموع، ودائما ما يكون آخر حديثها دعوة الله بأن يشفيها.

وبنفس القسم توجد أيضاً امرأة صومالية تدعي طاهرة محمد حسن (من قبيلة نور محمود)، وهي من اللاجئات الصوماليات، فعندما اقتربت منها وكلمتها باللغة الصومالي تهلل وجهها سروراً، وسرعان ما سألتني هل أنتِ صومالية؟ فأجبتها بـ "نعم"، وبابتسامة جميلة محيت كل نظرات الألم التي رأيتها فيه عينيها في البدء، ثم واصلت حديثها قائلة: "خليهم يخرجوا لي الحديد من رجلي ويعيدوني إلى الصومال وطني".

طاهرة تعاني من كسر في الفخذ وعليها أسياخ منذ أربع سنوات.
وتضيف في حديثها لـ«الأيام»: "وصلت عدن في بداية الحرب الأهلية في الصومال، ولي في اليمن أكثر من 20 سنة، وهنا (الدار المسنين) أربع سنوات".
دار المسنين بعدن.. حيث يجتمع عقوق الأبناء وجور الزمن (1-2)
دار المسنين بعدن.. حيث يجتمع عقوق الأبناء وجور الزمن (1-2)

تحدثت بوجع ودموعها تترجم معاناتها وآلامها قائلة: "ليس لي أهل هنا ولا في البساتين ولا في خرز، أنا وحيدة وأتمنى أن يخرجوا لي السيخ من قدمي، فأنا أيضاً أعاني من الضغط وهذا الحديد يزيدني ألماً، كما أتمنى أن يعيدونني إلى أهلي في الصومال"، وتركتني وهي تصرخ وتقول: "اخرجوا لي الحديد وأعيدوني إلى وطني".

سنين طويلة
وفي السرير المجاور ترقد امرأة من "الأرموا" (حبشية)، اسمها نوريا عبدالله حسن، لها عدد من السنوات في الدار، ولكني لم أتمكن من التحدث معها؛ لأنها لا تستطيع التحدث باللغة العربية، فاضطررت لطلب مساعدة الممرضة للمعرفة عن حالها، وبدورها أخبرتني بأنها من النزيلات القديمات منذ أيام السترات (مسيحيات) وجاءت عبر المفوضية، وعندما سألتها هل المفوضية تتفقدهم؟ قالت: "نعم".
الحمامات الجديدة لقسم النساء في طور البناء
الحمامات الجديدة لقسم النساء في طور البناء

إحدى النزيلات كانت موظفة في الخارجية بوظيفة "كاتبة" أوصلتها شقيقتها للدار، وعندما سألتها هل عندك بنات بكت بمرارة ووجع يفطر القلب وقالت بصوت مخنوق: "لديّ ابنتان ولكن ماتا، اندهشت الممرضات، ومن خلالهن عرفت أن إحدى ابنتيها متواجدة في صنعاء والأخرى في مديرية التواهي، وهي من تأتي لزيارتها وتسليمها المعاش الخاص بها".

لم أتمكن من التصوير وذلك لمنع الإدارة تصوير المسنين، وتقول الإدارة: "هناك مَن قام في الماضي بعملية التصوير للمسنين ومن ثم نشرها عبر شبكات التواصل الاجتماعي وهو ما يعد إساءة للمسن".
وسمح مدير الدار بأخذ صور شخصية للمتحدث كما هو الحال مع أبو احمد، والمرأة الصومالية؛ حتى نتمكن من العثور على أهلها لتعود إلى الصومال لاسيما بعد أن تواصلنا مع المفوضية التي رحبت بدورها بطلب النزيلة بشرط (العودة للوطن) أن تكون المرأة واعية لِما تقول وأن يتم التأكد من وجود أقرباء لها في الصومال.

وما نتمناه من المفوضة السامية لشؤون اللاجئين أن تقوم بتوظيف شخص يجيد اللغتين الصومالية والإثيوبية في مركز دار المسنين ليكون عوناً لهؤلاء النزلاء في الدار.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى