قصة قصيرة.. سراب الهموم

> قصة/ أنيسة الزياني

>
بعد انتظار ساعة من الزمن أو أكثر.. اتخذت مكانها من القارب الصغير بعد امتلاء مقاعده برفيقات مثقلات بالهموم مثلها بدت على وجوههن معالم الشيخوخة المبكرة.. انطلق بهن ممتطياً ظهر الخليج فارس همام يمخر البحر غير عابئ بجحافل الأمواج المتسابقة لتنتحر على مقدمته، فيغدو الخليج تحته أرضاً منبسطة.

كانت هي جالسة في مؤخرة القارب على كرسي وحيد، متكئة على جانبه الأيمن تحدق في الأفق البعيد بحدة علها تثقبه فتتخطاه إلى ما لا نهاية.

تكل عيناها فتدير رأسها للخلف.. ترى البحر تنفلق مياهه فيعتلي الزبد جوانبه.. تفتر شفتاها عن ابتسامة إعجاب حزينة، وتعود بناظرها إلى الأمام كرة أخرى متأملة بقايا الأمواج المتكسرة على جانبي القارب.. ساهم عقلها في لا شيء.
خامرتها رغبة في النهوض على قدميها والسير حتى المقدمة.. لم تستطع.. إنها ترزح تحت ثقل عظيم لا تعرف كنهه.. تفكر ملياً، تغوص في أعماقها تفتش عن شيء جميل يخفف عنها حملها.. فتجد بعض الذكريات الجميلة رابضة هناك في داخلها، تعلوها كتلة من السواد تمنعها من الظهور.

تحاملت على نفسها عدة مرات، ونهضت متثاقلة رغم نحافتها.. سارت ببطء حذر لتحافظ على توازنها فالقارب يعلو بمن فيه ويهبط دون هوادة.. تصل المقدمة، تواجه الرياح القوية بجسدها النحيل الثقيل فتتلاعب بها تحاول الثبات فتتمايل.. ظلت تقاوم الاندفاع إلى الوراء.. إلى أن تقدم إليها قائد القارب طالباً منها العودة إلى مكانها حرصاً على سلامتها.. لم تنبس ببنت شفة وهي عائدة إلى مقعدها.. تعاود النظر إلى الفضاء المحيط بها فلا يتسع عقلها لاستيعاب امتداده العظيم.. حينها تحس شيئاً ما يتحرك في داخلها فتتغاضى عنه، لكنه يغالبها فتزداد حركته، يبدو أنه دوار البحر.. تمد عنقها الرقيق خارج القارب وتتقيأ لا شيء.. ترفع رأسها فتشاهد أمامها طائراً أسود اللون يخفق بجناحيه ويبتعد محلقا.. تتساءل: من أين أتى؟ إن الأرض عنه بعيدة جداً.. ها هو طائر آخر يلحق به وآخر ينضم إليهما.. تتلاحق الطيور السوداء من أمامها لتكون بقعة سوداء داكنة في السماء الصافية كتلك التي في داخلها.. ما الذي يحدث لها؟.. إنها تتساقط في البحر منهكة.. ترفرف بأجنحتها لكنها تغرق..

يضيع السرب بين أمواج الخليج، فيما تعيد جسدها إلى جلسته.. ينتابها شعور بالراحة والاطمئنان مع غرق آخر الطيور السوداء.. وعلى حين غرة تعن عليها ذكرى حميمة إلى قلبها.. تتطلع داخلها باحثة عنها.. لا ترى الكتلة السوداء بل ترى ذكريات جميلة ترفرف بأجنحة وردية شفافة.. تطفو وتبدو لها من جديد.. ما كادت تضحك فرحة بظهورها حتى أصابها الفزع.. إنها تتدافع خارجة محلقة في الفضاء بأجنحة بيضاء.. ترفع يديها في الهواء تلاحقها راكضة على متن القارب.. تحاول إيقافها.. إمساكها فتفر منها واحدة تلو الأخرى.

تقفز عالياً لتقبض على إحداها.. تتملص منها للحاق بأخواتها.. تتشبث بها، لكنها تطير وتسحبها معها.. إنها خفيفة.. تهتف صارخة.. تسارع رفيقاتها لإنقاذها.. يمسكن برجليها ويسحبنها لكنها تندفع خارج القارب.. يتوسلن لها أن تترك طائر النورس فلا تستجيب.. يرفرف بقوة وهي متمسكة به.. تنفلت قدماها من الأيادي وتطير في الفضاء الرحب لتضيع مع طيورها البيضاء.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى