مقهى بن عيفان في وادي حضرموت.. من مغامرة استثمارية في منطقة نائية إلى مركز تجاري وممر دولي

> تقرير/ خالد بلحاج

> على بعد 60 كيلو متر غرب مدينة سيئون عاصمة وادي حضرموت وفي منطقة نائية قفرة إلا من أشجار السدر والسمر في سفح جبل المخينيق أسس العم مبخوت خميس بن سعيد بن عيفان النهدي مقهى شعبياً وصفه الأهالي حينها بالمغامر والمعتوه والمجنون وبعد أكثر من ثلاثة عقود من الزمن تحول مقهى بن عيفان إلى مركز تجاري هام وممر دولي يحمل لقب وبصمة مؤسسه الأول (بن عيفان).

إلى منطقة الرملة انطلقنا في رحلة رفقة مرشدنا عامر سالمين بن حويل للقاء صاحب الذكرى العطرة، العم مبخوت، الذي استقر به المطاف بعد حياة حافلة بالعمل في قرية صغيرة بمنطقة العادية بمديرية القطن، تقع إلى الغرب من منطقة (هينن) التاريخية، وفي واحة مزرعته الخضراء بين ضلال أشجارها التقينا الرجل السبعيني الذي يمضي أوقاته فيها.

يتحدث العم مبخوت بلهجته البدوية الأصلية وهو يسرد ذكرياته لـ "الأيام" ومشروعه الإنساني لخدمة الجنود والمسافرين: "جاءت فكرة تأسيس مقهى في تلك المنطقة النائية، عندما وجدت عدداً كبيراً من الجنود والمجندين ويعانون من الجوع ويجدون صعوبة في الحصول على الطعام وهم في طريقهم من المكلا إلى الموقع العسكري في منطقة الخشعة.

ويضيف قائلاً: "وسائل المواصلات كانت نادرة ويضطر الجنود لقضاء أوقات طويلة وهم ينتظرون قدوم وسائل نقل.. كانت المنطقة خالية ولا يجد الجنود فيها كوباً من الماء ليروا عطشهم وكان في قرارة نفسي أن المنطقة سيكون لها شأن يوماً من الأيام، وخصوصاً موقعها الإستراتيجي، وتيقنت أنه حتماً ستمر الطريق من (الشرورة) بهذا المكان، ففكرت أن أبني مقهى لأقدم خدمة لأولئك الجنود والمجندين وعابري السبيل، ومع مرور الزمن تحولت المنطقة إلى سوق تجاري وممر دولي".

بدأ العم بن عيفان حياته العملية، في مسقط رأسه قرية عادية آل عيفان، بالعمل في دكان صغير وملحق به طاحونة حبوب، وفي شبابه انتقل إلى المملكة العربية السعودية عن طريق منفذ الوديعة بحثاً عن مصدر رزق، وهناك تنقل بين مناطق عديدة بالمملكة، عاملاً في محلات تجارية إلى أن بدأ فتح محل تجاري، ونتيجة لظروف سياسية اضطر لمغادرة المملكة مطلع الثمانينات وقرر العودة إلى الوطن وإنهاء معاناته مع الهجرة والاغتراب.

يقول العم بن عيفان: "عندما عدت الى أرض الوطن اشتريت سيارة (أيسوزو) واشتغلت عليها، وعندما وجدت أن دخل العمل غير كاف قمت ببيعها واشتريت (هايلوكس) وبعدها جاءت فكرة بناء قهوة شعبية في منطقة المخينيق، فلجأت إلي بيع الهايلوكس واشتريت بثمنها مستلزمات بناء القهوة.

اللبنة الأولى للمقهى
يواصل العم مبخوت حديثة قائلاً: "في شهر 5 سنة 1984م وضعت اللبنة الأولى للمقهى، وعندما بدأت بالبناء تم توقيفي من قبل السلطة بحجة عدم وجود رخصة بناء، ومن ثم استخرجت الرخصة واستكملت البناء، وكذلك قمت ببناء بيت شعبي بجانبه وبنيت المقهى وتركته بدون أبواب ليكون مأوا للعابرين ومن لم يجدوا مواصلات يستقرون فيه حتى صباح اليوم التالي، وعند افتتاح المقهى جلبت طباخاً (بن قبوس) ليقوم بإعداد الشاي وطباخة الوجبات من الأرز واللحم كنا نقدمها للزبائن بأسعار زهيدة، بالإضافة إلى الخبز البلدي الذي كانت الأسرة تعده في البيت، وهو خبز من القمح المحليـ، وكنت أقوم بجلب الماء من منطقة الريان على عربة (لاند روفر) وخسرت ثلاث عربات خلال جلب الماء، أما الكهرباء لم تكن متوفرة حينها، ولكنني وفرت مولداً كهربائياً وكذلك (اتريكات) و(فوانيس).

لم التفت إلى الانتقادات
يواصل الرجل العصامي سرد ذكرياته لـ "الأيام": "كانت أحلامنا كبيرة وأيامنا جميلة ممزوجة بالتعب والكد والعمل ووجدت في خدمة الناس متعة وعيشة هنية، وأنا أشاهد البسمة والسعادة على وجوه الزبائن أو من تقطعت بهم السبل.. عندما قررت بناء المقهى وجدت فكرتي معارضة شديدة من الأصدقاء ووصفوني بالمعتوه والمجنون، بسبب البناء في ذلك المكان القفر، وبعزيمة وإصرار وطموح تجاهلت الانتقادات ولم التفت إليها ومضيت في مشروعي، وبعد سنوات المواطنون يتقاطرون ثم توسعت القهوة وعقب الوحدة اليمنية في العام 90م أتى المستثمرون من مختلف محافظات الجمهورية، وشهدت المنطقة دخول الخدمات إليها وتحولت إلى مركز تجاري مهم ونقطة عبور تربط محافظة حضرموت بمحافظات أخرى وممر دولي إلى دول الجوار.

ذكريات المنطقة النائية
تحدث العم مبخوت عن مواقف غريبة وأخرى طريفة وقعت له خلال عمله بالمقهى، يقول: "قبل الوحدة كان الشباب يسافرون إلى السعودية من خلال التهريب ووصل إلى المقهى حينها ثلاثة شبان ومكثوا فيه يومين، وكانوا يريدون السفر إلى السعودية فقلت لهم: "أنا لا علاقة لي بذلك، ولا أعرف أحداً وبعدها ذهبوا من عندي، وبعد نصف شهر جاء رجال الشرطة وأخذوني وحبسوني وبعد خمسة أيام تم التحقيق معي واتهموني بتهريب الشباب وأنهم طلبوا مني تهريبهم فقلت لهم: الشباب الثلاثة طلبوا مني تهريبهم فرفضت، وقلت لهم أن المقهى مراقب ونصحتهم بالعودة إلى أهلهم، وأكدت عليهم أن الغربة عناء والسفر لا فائدة منه، وبعد تحقيق مطول معي تم إخراجي من السجن.

مواقف كثيرة واجهها الرجل في منطقة نائية محاطة برقابة العساكر وأعين الجيش ورجال المخابرات ليجد نفسه أحياناً في السجن.

ومن المواقف التي حدثت للعم مبخوت، يقول: "في أحداث 13 يناير المأساوية وصل إلى المقهى مجموعة من الخواجات الأجانب وجلسوا عندي يومين وقاموا بشراء بعض الأشياء من الأحجار والبيتري (البطاريات)، وكذلك أخذوا بعض الصور للمقهى وبعدها أتت سيارات ونقلتهم وبسبب حساسية الوضع ومراقبة المقهى لم أسأل عن وجهتهم".

عودة إلى الأرض والزراعة
استمر العم مبخوت في خدمة الناس بالمقهى حتى العام 1990من، وبسبب كبره في السن وعدم قدرته على العمل قام بتأجير المقهى وعاد إلى مسقط رأسه مواصلاً خدمة الناس من خلال العمل في مزرعته الخاصة بين عدد من أولاده وأحفاده الذين علمهم حب الزراعة وخدمة الناس وعشق الأرض..

ترك العم مبخوت بصمته اسماً لامعاً، يتردد في أرجاء المكان، وعبقاً ممزوج بنكهة البن الأصيلة وسيرة عطرة في زمن التقلبات ورياح التغيير، ويكفيه شرفاً أن اسمه اليوم يملأ الآفاق، وأصبح معروفاً عند القاصي والداني، وارتبط اسمه بمغامرة خدمة الجنود الجياع "مقهى بن عيفان" في منطقة نائية، ففي قصة العم مبخوت درس ملهم لمن يغامر ويستثمر في سبيل خدمة الناس متشبثاً بالصبر والثبات ومتحدياً الصعوبات لينحت اسمه ويخلده في ذاكرة الأجيال القادمة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى