الخوارج نموذجا تاريخيا للتطرف

> في تاريخنا الإسلامي يوجد لدينا نموذج للتطرف؛ بل نماذج له على المستوى السياسي والمستوى الديني، وحتى على المستوى الاجتماعي - مع أن الإسلام هو دين التوسط والاعتدال واليسر - وأن (الصراط المستقيم) يعني فيما يعني الاستواء والتوسط وعدم الانحراف والتطرف.

وسنحاول في هذه المقالة أن نلم إلمامة سريعة بظاهرة (الخوارج) في تاريخنا العربي الإسلامي بوصفها نموذجاً أو مثالاً للتطرف والعنف، وعلى الرغم من اختلاف الزمن وأسباب التطرف، فإن هناك خصائص مشتركة تجمع المتطرفين في كل عصر.

أول ظهور للخوارج تحت هذا الاسم كان في عهد الإمام علي رضي الله عنه؛ حيث انشق من أنصاره وجيشه عدد من المسلمين، وخرجوا عن طاعته وولايته بحجة أنه حكم في دين الله تعالى أي قبل التحكيم بينه وبين معاوية رضي الله عنه؛ فرفع الخوارج شعار (لا حكم إلا لله)، فقال الإمام علي في ذلك الشعار: "هذه كلمة حق أريد بها باطل"، فالحكم لله حقاً، ولكن لابد للناس من إمام أو حاكم أو رئيس سواء عدل ام ظلم فهو مسئول أمام الله، ولا بأس في التحكيم بين المتحاربين أو المتخالفين؛ فالله تعالى قد أمر بالإصلاح والتحكيم حتى بين الرجل وزوجته، فما بالك في شؤون يترتب عليها استقرار الأمة وازدهار دينها ودولتها. ولكن الخوارج تصلبوا في فهم هذا النص، وأخطؤوا في تاويله، وأخذوا بحرفيته.

وهكذا سار الخوارج مخالفين لسائر الأمة وللدولة الإسلامية والخليفة الراشد الرابع، وقد كفّروا الخليفة نفسه، وهو أول صبي يدخل في الإسلام، ومن المبشرين بالجنة، وقد نشأ في كنف النبي صلى الله عليه وسلم. ومن قبل كان رموزاً هذا التطرف هم الذين قتلوا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في داره مظلوماً.

بعث إليهم الإمام من ينصحهم ويحاججهم، فعاد البعض منهم إلى صفوف جيش الخليفة، وظل آخرون مشردين يرفعون السيف في وجه الدولة الإسلامية، وكل من يخالفهم في رؤيتهم؛ ويكفرون من سواهم من الأمة، ويستحلون أموالهم وأعراضهم. لقد ضعضعوا الدولة بكثرة حروبهم وغزواتهم وبراعتهم في القتال خاصة في العصر الأموي، ولكنهم لم يصلوا إلى الحكم يوماً بسبب تطرفهم واهتمامهم بالحرب فقط على حساب السياسة، فلم تكن عندهم رؤية واضحة وعملية للحكم وسياسة الدولة وقيادتها، وانشغلوا بالحرب، وكأنها غاية بحد ذاتها، وسجنوا أنفسهم داخل شعارات نظرية مثالية لم تلائم طبيعة الواقع ولا روح الدين الإسلامي الحنيف ومرونته وتسامحه.

كان الخوارج يكثرون من الصلاة والصيام وقراءة القرآن وينشدون الشهادة في سبيل الله تعالى ويبكون من خوف الله؛ وقد فاضت أشعارهم بالحماسة والزهد في الدنيا ورثاء شهدائهم مفتخرين بهم؛ ولكن الخوارج أخطؤوا طريق الرشاد والسداد والجهاد، واستنفدوا كل طاقتهم في قتال أبناء جلدتهم من المسلمين في جيش الدولة، وغيرهم، وقد أثر ذلك على حركة الفتوحات الإسلامية تأثيراً سلبياً بعيداً.

ومن مظاهر تطرفهم أنهم كانوا فرقاً مختلفة، فهناك الأزارقة والنجدات والأباظية والصفرية؛ لأنهم كانوا يختلفون في أتفه الأمور، فيترتب على هذا الاختلاف ظهور فرق جديدة واتباع لهذا وذاك، لقد كانوا يخوضون في التفاصيل وتفاصيل التفاصيل فيختلفون، وإذا ما اختلفوا انقسموا وتعددت فرقهم، وقد قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدَ لكم تسؤكم"، ولكن الخوارج كانوا يسألون عن هذه الأشياء فيختلفون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كره لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال"، فمن حق المرء أن يسأل عن دينه وفي دينه، وهذا أمر مرغوب، ولكن التمحل في السؤال والإمعان في أمور غيبية ليس مرغوباً خاصة لدى عامة الناس، مثل ذلك الذي سأل أحد العلماء عن معنى قوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى"، إذ سأل كيف استوى الله على العرش؟ فقيل له: الاستواء معروف في اللغة، والسؤال عن كيفيته بدعة.

بمعنى أنه لا حاجة لمثل هذه الأسئلة، ولا طائل من ورائها لاسيما حين يترتب على الإجابة الخاطئة أو الناقصة سلوك ما يضر بالآخرين، فقد قيل: "إن نصف الطبيب أمرض الناس ونصف العالم كفر الناس.

ومما يلاحظ في جماعة الخوارج حين ظهروا على مسرح الأحداث لأول مرة أنه لم يكن أحد منهم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أكثر الخوارج أعراباً من سكان البادية، ولم يكونوا ممن سكن الحواضر في الغالب. فهذا الأمر له دلالة نفسية واجتماعية وثقافية.

وللحديث بقية إن مد الله لنا في العمر.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى