أضاعوا عدن وأي مدينة أضاعوا؟!

> د. عبد الحكيم العراشي

>
د. عبدالحكيم العراشي
د. عبدالحكيم العراشي
لقد ملكتني سورة من الحنق المر على عدن، وتملكني الإحباط النفسي الجارف الذي هو ليس وليد هذه الأيام، وإنما استولى علي منذ سنوات، لكن نفوذه تعاظم فوصل إلى درجته القصوى، ففي هذا الأيام اجتاحت عدن أعمال من جائحة السلب والاعتداء، وحضرات ولاة أمرنا جميعهم -دون استثناء- صُمّت آذانهم وغشت عيونهم غشاوة لا يسمعون ولا يرون، كيف يكون لهم ذلك وهم يسكنون في منازل الرغد والهناء، ويلبسون حلة الإسعاد؟!

من أين أبدأ الكتابة عن عدن  وكل المواضيع تؤدي إلى نهايات مؤسفة؟ كيف لا يكون ذلك وعدن، في نظرهم، كيكة تكالبت عليها السكاكين؟ بل إنها الغنيمة التي تقاطر عليها الباحثون عن الغنائم، فنصبوا حبائلهم لصيد المال كلاً حسب قدره ووجاهته وموقعه، فاشتد التنافس والتطاحن والتناحر والمساعي التي يبذلها كل منهم للحصول على القسم الأعظم من الفائدة وجمع وما يمكنه جمعه من المادة على أية صورة كانت، لدرجة أن إبليس تأنق لهم في تزيين الأعمال وهمس إليهم الاستثمار في المقابر، وهم بعملهم هذا أشد عداء وعنادا من أبي لهب، وأظلم ممن افترى على الله الكذب.

كم هي مسكينة عدن في كل صباح تستيقظ وتتوضأ من مياه خليجها والأمل يحذوها بين لعلَّ وعسى يكون يومها أفضل من سابقه، ولكنها تصطدم بعقول قد مسخت فتحولت إلى آلات تعمل دون تفكير  ووعي، إنها تلك العقول التي إنجازاتها ابتكار الوسائل المختلفة المؤدية إلى استيلاء كل منهم على كل متنفس وعام وخدمي وإدخاله في ملكيته وجعله تحت تصرفه، ويجري هذا التناحر والتكالب وهذا الحرص على المادة باسم الوطنية، وما هم من الوطنية بشيء، ولكنهم يعملون ذلك حباً في الأنا الذي سيؤدي بهم جميعاً إلى دمار الوطن والهلاك والفناء والاندثار والاضطراب، فكل ذلك لا يشكل فرق في حساباتهم شيئاً.

ماذا عسى أن أسرد للقراء ما يمكنهم أن يستنبطوه من خلاله مأساة عدن وما وقع عليها من إجحاف وظلم؟ أنه الظلم الذي ملأ حتى الهواء الذي تتنفسه هذه المدينة، وكلما حاولت أن تكسر طوق القيود التي تكبل معصميها لتبحث عن حريتها وتتلمس الهواء صدها أعداء التحضر الذين وضعوا الطوق الفولاذي في معصميها، فهم مقيمون عليها كسدنة في معبد، فكتموا على أنفاسها، وباعدوا بينها وبين هوائها.

لا تسلني كيف يحدث هذا؛ لأن المصيبة الكبرى قد حلّت فينا ثم انتقلت إلى مدينتنا، بسبب السلوكات  المتعفنة التي انتقلت من الأفراد إلى المجتمع العام، والتي بانتقالها إلى دائرة العام، تحول مجرى تاريخ  عدن نحو هذا المنحى أو ذاك المنتهى، وبهذه العدوى تزحزحت الأبعاد الأنطولوجية الكبرى عن مواضعها فأصبح التهور شجاعة، والخداع وفاء، والإجبار اختيارا، والقضية سلعة، والمصير تجارة، والقوة بلطجة.

هكذا سُلبت إرادة عدن من قبل أعداء التحضر وباغضي الصواب، وجرثومة التقهقر، وطواغيت الإنسانية، وعناصر التأخر، وأغوال الاحتكار، ودعاة الهزيمة، فكأن بينهم وبين عدن ثأرًا، فلا يهدأون حتى يقضوا عليها، ويطووا صحيفتها، فساموها وأهلها كل أنواع العذاب، فاستباحوا كل خدمي ومتنفس، وقتلوا فيها كل تمدن وتحضر، وكبلوا حاضرها، فكان حاضرها هو الحاضر الذي لا يُسر، والمواطن فيها يردد آهة المغلوب على أمره الكاره لحاضره المنحسر، كيف لا يكون حاله كذلك وهو يعيش مرارة الواقع؟! وما يزيد من عنائه هو ولاة أمره، فكل منهم يتمشدق بالإنجازات ويتفنن  باستعراض تاريخه المنتصر.

لم يقف الأمر عند هذا الحد بل استحضروا مستقبلها فاغتصبوه غصبا طمعاً وجشعاً، فأصبح مستقبل عدن الاقتصادي والحضاري يئن تحت أحواش المتنفذين، وزرائب النازحين، ومعاول الناهبين، وتجاهل الحاكمين، فتكالب عليها الطامعون، وغرقت تحت موجات النازحين الذين صاروا أضعاف الساكنين، وتكاثرت فيها الحظائر والزرائب، وصارت الحدائق والجولات مرتعا ومرعا للأغنام؛ إنها تلك السلوكيات التي بمجرد أن نشاهدها ينبعث فينا لهيب الألم ويضطرم بداخلنا جمر الإحباط.

إنها عدن المدينة التي تصحوا وتنام على أزيز الرصاص، وصفير الطقوم، وقعقعة المدافع، وإراقة الدماء، والمواطن فيها تتلاطم به أمواج بحر الصراع الطامي في مجراه العجيب طوراً في ظلمة انقطاع الكهرباء وتارة في شحة الماء، لذا فالمواطن في عدن يرى عالما يعيش فيه وقد غابت فيه شمس السعادة والرخاء، عالم يصوح ويذبل ويموت في ظلمة البؤس والشقاء، كل هذا أدى إلى تعاسة الحياة التي يحياها أبناء عدن بشق الأنفس، وإلى هذه الحالة البائسة التي هم فيها من كد وعمل ودأب متواصل آناء الليل وأطراف النهار.

*أستاذ الحضارة الإسلامية المشارك بجامعة عدن
رئيس الدائرة السياسية والاجتماعية بمركز رؤى للبحوث والدراسات والتدريب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى