كُتب عليكم الصيام..

> نبيل سالم الكولي

> يأتي رمضان كل عام والناس ينتظرونه بلهفة وشوق لأيامه ولياليه، ويستعدون له استعداداً خاصاً رغم الظروف التي تحيط بهم، إلاّ أن لرمضان سيادة تامة على كل مجريات الأحداث والأمور، فهو شهر الشهور، فيه الخير والبركة والنور، وفيه تجارة لن تبور، وتكثر فيه الصدقات فتدخل إلى قلب كل فقير السرور.
كُتب علينا الصيام لقوله سبحانه وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة: 183 - 185).

يخبر الله تعالى بما منّ به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة، لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كل زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة، بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي كُلفتم بها.
ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: "لعلكم تتقون" فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى، لأن فيه امتثال لأمر الله واجتناب لنهيه. فمما اشتمل عليه من التقوى أن الصائم يترك ما حرّم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوه مما تميل إليه نفسه، متقرباً بذلك إلى الله، راجياً بتركها ثوابه، فهذا من التقوى.

ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه، لعلمه بأن الله مطلع عليه.
ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه وتقل منه المعاصي، ومنها: أن الصائم في الغالب، تكثر طاعته، والطاعات من خصال التقوى. ومنها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين، وهذا من خصال التقوى.

ولما ذكر أنه فُرض عليهم الصيام، أخبر أنه في أيام معدودات، أي: قليلة في غاية السهولة، ثم سهل تسهيلاً آخر فقال: "فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر.
وذلك للمشقة رخص الله لهما في الفطر. ولما كان لابد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن، أمرهم أن يقضونه في أيام أخر، إذا زال المرض وانقضى السفر وحصلت الراحة.

وفي قولة "فعدّة من أيام" فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان التي أفطر فيها وعلى أنه يجوز أن يقضي أياماً قصيرة باردة عن أيام طويلة حارة كالعكس.
وقوله "وعلى الذين يطيقونه" أي: يطيقون الصيام (فدية) عن كل يوم يفطرونه (طعام مسكين). وهذا في ابتداء فرض الصيام، لما كانوا غير معتادين للصيام، وكان فرضه حتماً، فيه مشقة عليهم، أدرجهم الرب الحكيم بأسهل طريق. وخيّر المطيق للصوم بين أن يصوم وهو أفضل، أو يطعم. ولهذا قال: "وأن تصوموا خيرٌ لكم".

ثم بعد ذلك، جعل الصيام حتماً على المطيق وغير المطيق، يفطر ويقضيه في أيام أخر.
وقيل "وعلى الذين يطيقونه" أي يتكلفونه ويشق عليهم مشقة غير محتملة، كالشيخ الكبير، ففدية عن كل يوم طعام مسكين، وهذا هو الصحيح.

"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" أي: الصوم المفروض عليكم، هو شهر رمضان، الشهر العظيم الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم.

وهو القرآن الكريم المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان والفرقان بين الحق والباطل والهدى والضلال وأهل السعادة وأهل الشقاوة. فحقيق بشهر رمضان هذا فضله، وهذا إحسان الله عليكم فيه، أن يكون موسماً للعبادة ومفروضاً فيه الصيام. فلما قرره وبيّن فضيلته وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح الحاضر. ولما كان النسخ للتخيير، بين الصيام والفدية خاصة، أعاد الرخصة للمريض والمسافر، لئلا يتوهم أن الرخصة أيضاً منسوخة فقال: "يريد الله بكم اليُسر ولا يريد بكم العُسر"، أي: يريد الله تعالى، أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه، أعظم تيسير، ويسهلها أبلغ تسهيل.

ولهذا، كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله، وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله، سهله تسهيلاً آخر، إما بإسقاطه أو تخفيفه بأنواع التخفيفات. وهذه جملة لا يمكن تفصيلها.
"ولتكملوا العدّة" وهذا، والله أعلم، لئلا يتوهم متوهم أن صيام رمضان يحصل المقصود منه ببعضه دفع هذا الوهم بالأمر بتكميل عدته وبشكر الله تعالى عند إتمامه على توفيقة وتسهيله وتبيينه لعباده وبالتكبير عند انقضائه، ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلال شوال إلى فراغ خطبة العيد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى