أزمة العقل السياسي.. تنتج له الأزمات فيعجز عن حلها

>
العقل السياسي المنهك بالصراعات الداخلية المتعددة والذي تتحكم به خصوماته وعداواته مع الآخر المختلف عنه بالرأي والموقف في هذه القضية أو تلك، هو عقل عاجز عن إنتاج الحلول الممكنة لمشكلات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ لأنه يعيش حالة من الخمول أساساً ويفتقد لروح المبادرة والإبداع والرؤية الثاقبة بشأن مشاكل الحاضر وتحديات المستقبل، ويغرق بالتفاصيل والشخصنة للأمور وبما يجعل التاريخ مستبعداً هنا من الحضور وهو الضابط لحركة الفعل السياسي الناضج الذي ينشد صناعة الأحداث والتحولات التاريخية الكبرى.

بل وتسود، عوضاً عن ذلك، نزعة التحدي والمكابرة المشحونة بسوء التقدير لحركة الواقع وتعقيداته المختلفة وحجم وحضور بقية الأطراف الفاعلة فيه على تفاوت ونسبية فعلها أو قبولها مجتمعياً، وهو بذلك يكبل نفسه بقيود ما أنتجته ظروف الماضي من سلبيات وأخطاء وخطايا على تعدد عناوينها ومحطاتها وتعدد فاعليها وتنوع أسبابها الذاتية والموضوعية ومشدوداً لها وبصور مختلفة!.

وينهض فقط من خموله حين تحركه سخونة درجة حرارة علاقته (بالآخر) وما وصلت إليه من تجاذب وتشاحن، ومتجاوزاً بذلك للغة التفاهم واستبعاده لمنطق وضرورة وأهمية الحوار المسؤول الذي يشكل عادة وفي كل مكان وزمان طوق نجاة لجميع الفرقاء والمتحاربين كذلك، ويستعين عوضاً عن ذلك بما لديه من مخزون نفسي صنعته فيه تلك الظروف والأحداث، وهنا يتم استدعاء الماضي بكل أشكاله وخلفياته السلبية المقيتة التي تتجلى عبر العصبيات بأنواعها ومسمياتها، وهي المشحونة بالأحقاد والضغائن وروح الثأر والانتقام، والتي تتغطى أغلبها وفي كثير من الأحيان بالشعارات والعناوين الوطنية، وهي الأكثر خطورة وتهديداً على مستقبل الناس وحياتهم وعلى تعايشهم ونسيجهم الاجتماعي وتهدد أمنهم واستقرارهم، وتؤثر على وحدتهم وإرادتهم وقدرتهم على الذهاب معاً نحو المستقبل المزدهر والآمن للجميع.

إن مثل هذا العقل السياسي والذي تشكل بحكم الممارسة السياسية الطويلة التي مارستها (أجيال) سياسية متعاقبة، قد تحول إلى (عقلية) سياسية شاملة تكاد تتحكم بسلوك وممارسة الجيل السياسي الجديد الذي يتصدر المشهد اليوم بما في ذلك (النخب) التي تشمل القيادات السياسية المختلفة وبمسمياتها وصفاتها ودرجاتها المتعددة، ومعها وإلى جانبها مع الأسف الشديد من يفترض بأنهم من (صناع) الرأي والمعنيون بنشر الفكر والتنوير على تعدد مجالاته ومساراته في حياة المجتمع، وأعني بهم هنا البعض من أولئك الذين يعبرون عن مواقفهم وقناعاتهم عبر وسائل الإعلام المتعددة، أو يعملون في مؤسسات الإعلام والتعليم العالي والمؤسسات الثقافية المختلفة، ممن يحملون الألقاب والصفات (العلمية)، الذين أثبتت التجربة العملية أنهم أبعد ما يكون عن صفاتهم وألقابهم تلك التي لم يبرروا جدارتهم بها باستثناء قلة قليلة منهم!.

لذلك كله لا غرابة أن يجد القصور والتقييمات والتوصيفات غير الدقيقة والانفعالات، طريقها إلى مراكز صنع القرار وبما يؤثر سلباً على محتوى ما يصدر عنها، وأن يتلقفها المنفعلون ويترجمونها في السلوك والممارسة العملية وكل حسب فهمه وبوصلة مصلحته.

وكذلك لا غرابة أيضاً من تفاعل هذا العقل السياسي السائد وتعاطيه السلبي مع ما تبثه شبكة التواصل الاجتماعي التي أصبحت أداة فعالة لإذكاء الصراع السياسي والترويج للشائعات واستدعاء الفتنة، ومصدراً خطيراً وعلى أكثر من صعيد في ظل انعدام المناعة السياسية وغياب وعاء الحصانة التاريخية والثقافية، وبالتالي غياب المرجعية الإستراتيجية الحاكمة لدى من يضعون الرؤى والبرامج السياسية بشقيها العملي المباشر والمرحلي والبعيد المدى أو تشوشها لديهم في أحسن تقدير.

ولذلك نعتقد بأن الخروج من أزماتنا المتناسلة ومغادرة دورات العنف التي تجد لها دوماً من يغذيها من خارج دائرة الفرقاء، غير ممكنة بدون وقبل أن يتحرر العقل السياسي الجنوبي من كل عيوبه وما علق به من قصور وضيق أفق في التفكير والتعاطي السطحي والمنفعل في شؤون الحياة السياسية، وقد اجتهدنا في تسليط الضوء على بعض من ذلك فيما أوردناه أعلاه.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى