سقطرى جزيرة الأحلام

> يصادف هذا العام 2020م مرور 513 عاماً على الغزو البرتغالي لجزيرة سقطرى جزيرة الأحلام والأساطير ودم الأخوين والعنقاء، وفي عام 1972م، زرتها كأول رئيس وزراء في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية يقوم بزيارتها، وأقتبس جزءاً مما كتبته في مذكراتي عن هذه الزيارة:
"وصلنا جزيرة سقطرى.. إذن هذه هي جزيرة الأحلام التي يقال إنها موطن الطائر الخرافي العنقاء أو الرخ الذي حمل السندباد وطاف به مدن العالم القديم، كانت الدوائر الغربية وإعلامها في سنوات حربهم الباردة مع الاتحاد السوفييتي يزعمون أنها أصبحت قاعدة سوفيتية، أتفقد الجزيرة.. لا ميناء هنا، لا مطار، لا طرقات، لا كهرباء، لا ماء للشرب، لا مدارس، لا مستشفيات ولا وسيلة واحدة من وسائل الحياة العصرية، فكيف تصبح قاعدة سوفيتية!؟
استقبلنا أهالي الجزيرة والمسؤولون فيها استقبالاً حافلاً وحاراً، هذه هي الزيارة الأولى لمسؤول كبير من عدن إلى جزيرتهم التي شغلت العالم وما تزال..

بعد الاستقبال ركبنا سيارة جيب "لاندروفر" بصحبة مأمور جزيرة سقطرى وعدد من المسؤولين، متجهين إلى عاصمتهم حديبو، انطلقت بنا السيارة في طريق صخري، تتصاعد خلفنا أعمدة الغبار ثم اجتازت طريقاً مستوياً تنمو فيه أنواع غريبة من الأشجار ذات الطول المنخفض والأغصان الملتوية المجردة من الأوراق تقريباً. بلغنا مضيقاً جبلياً، ودعنا عندها سياراتنا، حيث كان الصعود علينا بعد ذلك سيراً على الأقدام، متسلقين طريقاً شديدة الوعورة لمدة تقارب الساعة حتى وصلنا إلى حيث تعمل مجموعة من عمال الطرق في شق الطريق الترابي الذي سيربط حديبو بموري لأول مرة، شاهدت العرق يتصبب من رفاق الطريق وملابسنا مبتلة بالعرق والجميع يلهث من العطش والتعب وبعض رفاقنا لم يقووا على السير والصعود لأنهم لم يعتادوا ذلك، وكانت الشمس تبدو لحيضات ثم تختفي وسط الغيوم التي احتوت جبل "حجهر" الشامخ. وصلنا إلى حيث كانت تنتظرنا ثلاث سيارات هي كل ما تملكه السلطة هناك، أما المواطنون فيعتمدون على الجمال والحمير والزوارق في تنقلاتهم.

بقي أمامنا للوصول إلى العاصمة أكثر من نصف ساعة، قضيناها في صعود وهبوط، نعلو وننخفض في تصدعات جبلية وجلاميد صخرية كبيرة تغطي ساحل البحر حتى العاصمة. ها نحن الآن في حديبو عاصمة سقطرى، وهي في الحقيقة بلدة صغيرة تتزاحم فيها بيوت من طابق واحد أو طابقين نادراً بنيت من الطين، بأزقتها الضيقة التي لا يُشاهد فيها الناس تقريباً.. من هنا بدأنا رحلتنا في ماضي وحاضر سقطرى، حيث الحياة البكر في قشرتها الأولى محتفظة ببكارتها وفطرتها وأصالتها، بيوت قليلة متناثرة مبنية من الطين والحجر وسعف النخيل الذي ينتشر على مساحات واسعة ويمتد حتى شواطئ الجزيرة فتغسل مياه البحر جذوعها في عناق حميم.

هذه الجزيرة، سقطرى، احتلها البرتغاليون والبريطانيون، لكنهم لم يتركوا فيها أي شيء يمكن للتاريخ أن يذكرهم به، غير أنني علمت أن كنائس قد بنيت هناك بالقرب من حديبو كما جاء في كتاب الضابط والكاتب البريطاني جاكوب "ملوك شبه الجزيرة".

والغريب أننا لم نجد في الجزيرة فُندقاً أو نزلاً صغيراً، أو حتى لوكاندة للمنام، ولا دار ضيافة أيضاً، فأخذونا إلى مركز للشرطة. افترشنا الأرض ونمنا على سطحه، وحرصنا على أن نلتحف جيداً خوفاً من البعوض والملاريا. وككل مكان في هذه الجزيرة، لا يوجد لا ماء ولا كهرباء.

في الصباح، قمنا بزيارة الدوائر الحكومية والمدرسة الابتدائية والوحدة الصحية وهما المؤسستان الوحيدتان الموجودتان بعد 129 عاماً من الاحتلال، حرصت على اللقاء بالمواطنين، كما التقيت سلطان المهرة وسقطرى نفسه، وهو السلطان عيسى بن أحمد سلطان سقطرى والمهرة من سلالة القائد العربي محمد بن عامر بن طوعري بن عفرار الذي تصدى ومقاتلوه لأول محاولة استعمارية للجزيرة وأبلى بلاءً حسناً حتى استشهد مع أكثر من مائة وخمسة وعشرين مقاتلاً، رفضوا الاستسلام والهدنة مع العدو، ولم يبق منهم إلا رجل أعمى بقي مختبئاً في أحد أركان القلعة، وعندما أمسكوا به سألوه: لماذا لم تخرج؟ هل أنت أعمى؟!
فقال لهم: إنني أعمى، ولكنني أرى شيئاً واحداً وهو الطريق المؤدي إلى الحرية.

ويعترف البرتغاليون أنها أسوأ تجربة في حروبهم الخارجية، بعد أن قُتِلَ عدد من جنودهم وضباطهم بالسيوف والرماح والحجارة في 13 يناير 1507م، وقد حولوا مسجد مدينة السوق إلى كنيسة وقلعتها إلى قلعة القديس ميخائيل ولم تصمد قواتهم أمام الحصار والمقاطعة التي فرضها عليهم السكان، والوباء الذي فتك بهم، وهكذا حلت عليهم لعنة سقطرى، كما حلت على الغزاة الفرنسيين والبريطانيين وغيرهم".

انتهى الاقتباس، ونتابع اليوم ما يجري في سقطرى بين العناصر الموالية للشرعية والانتقالي والسباق إلى حديبو وإلى مكتب المحافظ حول من يحسم ومن يحكم هذه الجزيرة ومن يرفع العلم اليمني ومن يرفع العلم الجنوبي، والذين يحركون هذه الأحداث ومن خلفهم ليس لهم أية علاقة بالجزيرة وسكانها، هذه الجزيرة التي كانت بمنأى عن كل الصراعات الجنوبية البينية السابقة وانحصر صراعهم في الماضي مع الغزاة عبر التاريخ، أما صراع اليوم الذي نُقل إلى الجزيرة قسراً فهو صراع  يدمر النسيج الاجتماعي لسكان هذه الجزيرة ويمزق وحدتها.

أهل هذه الجزيرة أناس طيبون، مسالمون، شجعان وشرفاء، يحبّون العيش بأمن وسلام، لم يعرفوا الأحقاد والمكايدات في تاريخهم، وللتاريخ أقول إنني سمعت كلاماً جميلاً من أمير الكويت، الشيخ جابر الأحمد، رحمه الله عن أبناء المهرة، ومنهم سقطرى، والذين هاجروا إلى الكويت وكانوا يعملون فيها، حين أشاد الأمير بهم وقال: "إننا نأتمنهم على أسرنا وعيالنا وأموالنا، لطيبتهم وأخلاقهم".

ما يجري في سقطرى مقلق للغاية ولا مصلحة لسقطري واحد من هذه الفتنة التي تعصف بجزيرة السلام والوئام.
وفي هذه الأيام المباركة من خواتيم شهر رمضان، نناشد الجميع بأن يتركوا سقطرى هادئة آمنة، وأن يكفوا عنها العبث القاتل الذي يمارسونه، ولا ينقلون إليها الصراعات التي لم تعرفها والتي بدون أي شك لا تخدم إلا أجندات مخفية ليست في مصلحة الجزيرة وأبنائها.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى