هل سيكون العالم ثنائي القطب مرة أخرى؟

> فيتالي نعومكين*

>
لقد كفل العالم ثنائي القطب السابق الذي عاش فيه بعضنا، بما في ذلك كاتب هذا المقال، توازن القوى بين مركزي قوة متعارضين، وكبح تهديد نشوب حرب عالمية مدمرة جديدة. في الوقت نفسه، حتى في تلك المرحلة، مرّت حالات كانت فيها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على شفا صراع نووي، على سبيل المثال، خلال الأزمة الكوبية عام 1962.

تأخذ المواجهة اليوم بين الولايات المتحدة والصين أبعاداً كبيرة، لدرجة أن عدداً من الخبراء يتحدثون بالفعل عن اجتيازهما «نقطة اللاعودة»، ويكاد يبدو أن الانتقال إلى عصر «عالم جديد ثنائي القطب» قد بدأ. الخبراء الروس يستخدمون صيغة أكثر ملاءمة، هي: «الاضطراب ثنائي القطب في النظام العالمي». مهما يكن، لا مجال للشك اليوم في النمو السريع للصين وسعيها ليس فقط من أجل الريادة الاقتصادية (التي تم إنشاء المتطلبات الأساسية القوية من أجلها)، بل من أجل الريادة العسكرية والسياسية. ومع ذلك، تدرك الصين، كما لاحظ رئيس معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية ألكسندر دينكين خلال منتدى «قراءات بريماكوف» الذي جرى في هذا المعهد في 29 مايو (أيار)، أنها لم تنشئ بعد «نظام الهيمنة التكنولوجية» وتحاول عدم مفاقمة المواجهة مع الولايات المتحدة، التي تتبع سياسة كبح الصين في جميع المجالات، بل التفاوض معها وتقديم التنازلات.

حتى الآن، لم يجب أي من المحللين - لا الأميركيين ولا غيرهم - عن السؤال: ما هي خطة الرئيس دونالد ترمب الاستراتيجية في تدميره المستمر لنظام المعاهدات والاتفاقيات الدولية، التي يقوم عليها النظام العالمي بأكمله حتى الآن، وكذلك في إضعافه المنظمات الدولية (بما في ذلك الهجوم على منظمة الصحة العالمية التي تؤدي الوظائف الضرورية أثناء الجائحة)؟
لنأخذ، على سبيل المثال، «اتفاقية الأجواء المفتوحة» التي قررت الولايات المتحدة مؤخراً الانسحاب منها، فهي اتفاقية ليست أساسية في الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي، لكنها مع ذلك تعتبر مهمة (خاصة في الحفاظ على نوع من الثقة على الأقل بين الدول). المفارقة الرئيسية هنا، هي أن الجانب الأميركي نفسه، أمضى ما يقرب من أربعة عقود في الماضي لإقناع موسكو بالبت في تبادل عمليات التفتيش ورحلات المراقبة الجوية، والآن يتحدث عن عدم قبول مثل هذه الآليات. يفسر عدد كبير من منتقدي ترمب هذه القرارات إما من خلال نهجه العام في «الأنانية الوطنية» والتجاهل الكامل لمصالح الدول الأخرى، أو من خلال: الاندفاع والغطرسة والاستياء، وما إلى ذلك، أو حتى قلة خبرته ونقص المعرفة في الشؤون الدولية. أنا لا أتفق مع وجهة النظر هذه، حيث أرى في هذه القرارات استراتيجية مدروسة، وليست نتيجة لدوافع انفعالية. استراتيجية بناء نظام عالمي جديد، يطلق عليه أحياناً اسم «عالم من دون قواعد». في الواقع، قد يكون غياب القواعد، التي تم اعتمادها بتوافق دولي، في حد ذاته قاعدة. إنها القاعدة الجديدة، المدعوة لتخدم ضمان النصر المخطط له للولايات المتحدة في حرب غير معلنة ضد المنافسين وضد جميع من لا يتفق مع الهيمنة الأميركية. حيث البقاء في «عالم من دون قواعد» هو للأقوى.

إن تفسير جميع قرارات الرئيس الأميركي بالغة الأهمية لمصير العالم بأنها نتيجة لحالة انفعالية أو لمصالح تجارية أو لتأثير جماعات نافذة، أمر غير صحيح تماماً مثل تفسير صعوده إلى السلطة في أقوى دولة في العالم بأنه كان عن طريق الصدفة. أنا متأكد من أنه كان هناك «طلب» في المجتمع الأميركي على مثل هذا الرئيس، وتم تحقيق هذا الطلب في سياق انتخابات حرة.

وإذا عدنا إلى الاستقرار الاستراتيجي، سيتم دق المسمار الأخير في نعشه في فبراير (شباط) من العام المقبل في حال قررت الإدارة الأميركية عدم تجديد معاهدة تخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية (معاهدة ستارت الجديدة). في الاجتماع الأخير في مايو المنصرم عبر الإنترنت لقادة المجموعتين الروسية والأميركية المشاركين في «حوار دارتموث» الممتد منذ 70 عاماً، تم التأكيد مرة أخرى على الأهمية الاستثنائية والوجودية لتمديد هذه المعاهدة. قبل ذلك بوقت قصير، قام المشاركون في الحوار، بينهم ممثلون مؤثرون من الطبقة السياسية الأميركية، وأعضاء سابقون في مجلس الشيوخ، وسفراء (بما في ذلك سفراء أميركيون سابقون في روسيا)، وقادة عسكريون، بمناشدة حكوماتهم بهذا الصدد. كما هو معلوم، فإن الجانب الأميركي يضع شروطاً لتمديد المعاهدة، أهمها انضمام الصين إليها.

في الوقت نفسه، تواصل بكين الحفاظ على موقفها السابق بشأن هذه المسألة، وتعارض مشاركتها في أي مفاوضات بشأن معاهدة ثلاثية للحد من الأسلحة الاستراتيجية. يشرح الجانب الصيني ذلك بقوله إن القدرات النووية لبكين هي في أدنى مستوى ممكن ولا يمكن مقارنتها بالقدرات النووية للولايات المتحدة وروسيا. بعبارة أخرى، دعهم يخفضون أسلحتهم أولاً. موسكو دعمت، بناءً على مصالح التحالف الاستراتيجي مع بكين، الموقف الصيني وأصرت على أهمية تمديد المعاهدة في صيغتها الثنائية باعتبارها آخر معقل للاستقرار الاستراتيجي.

مع ذلك، هناك وجهات نظر في مجتمع الخبراء الروس لا تتوافق مع هذا الموقف الرسمي. لا يتفق مع هذا الموقف الخبير البارز في الأسلحة الاستراتيجية أليكسي أرباتوف، إذ شدد خلال منتدى القراءات المذكور أعلاه على أن روسيا، خلال السنوات العشر الماضية كانت نفسها تتحدث عن ضرورة الانتقال من الحد الثنائي للتسلح إلى الحد متعدد الأطراف، قاصدة بذلك الصين، التي من دونها «سينهار كل شيء». لكن أرباتوف يدرك أيضاً أنه من أجل ذلك، يجب أن تكون بكين مهتمة حقاً بشيء ما. فهل يعني هذا منحها الحق في زيادة عدد الحاملات الاستراتيجية للرؤوس النووية خمسة أضعاف والرؤوس النووية نفسها عشرة أضعاف؟ يجب فهم ما الذي يقترحه الأميركيون. لا نعلم بعد ما الذي يقترحونه. أرباتوف ينتمي إلى مجموعة من الواقعيين البراغماتيين فيما يتعلق بالتحالف الروسي - الصيني. فهو يقول: الصين، مرة تشكل تهديداً كبيراً لنا (كما حصل ذلك في أيام الاتحاد السوفياتي)، ومرة أخرى هي حليف أو شريك استراتيجي. الحليف الاستراتيجي هو عندما يكون مستعداً لإرسال جنوده للقتال من أجل مصالح حليفه والعكس صحيح.

هنا، يرى بعض المحللين إشارة واضحة إلى الأزمة السورية، حيث يقتصر التعاون الروسي - الصيني على الجانب الدبلوماسي بشكل رئيسي. يعرّف ألكسندر دينكين، رئيس معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية، علاقات روسيا مع الصين بالصيغة التالية: «لا يمكن أن تكونا ضد بعضهما البعض أبداً، ولكن ليستا دائماً معاً». ومع ذلك، في روسيا هناك عدد قليل جداً من المشككين في مستوى التحالف الاستراتيجي الذي تم التوصل إليه مع الصين. على العكس، معظم الروس يعتبر هذا المستوى العالي غير المسبوق من العلاقات أحد أهم إنجازات السياسة الخارجية الروسية في السنوات الأخيرة.

هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن روسيا يجب أن تعرّض مصالحها للخطر من أجل مصالح أي طرف آخر. لذلك، حتى لو أصبح العالم ثنائي القطب مرة أخرى، رغم حقيقة أن الصين ستحتل مكان الاتحاد السوفياتي في هذه المواجهة، يجب على روسيا، وفقاً لمعظم الخبراء الروس، ألا تنضم إلى المعركة، بالانحياز لأي من الجانبين، لأنها قد تكون في وضع الخاسر. دعونا لا ننسى أنه حتى مع مراعاة عدم استعداد الصين لتصبح الزعيم العالمي الوحيد وسياسة الكبح الصارم التي تتبعها الولايات المتحدة تجاه بكين، فإن الجميع بحاجة إلى السوق الصينية العملاقة، بمن فيهم الأميركيون، خاصة في عالم ما بعد «كوفيد 19». كما أن روسيا ليست مستعدة، وليست لديها أي رغبة في المنافسة على لعب دور زعيم العالم. ولعل الحل الأفضل لها هو البدء في لعب دور قوة توازن رئيسية، حيث يمكنها الحصول على دعم قوي من لاعبين آخرين اختاروا استراتيجية التوازن، بما في ذلك في الشرق الأوسط.
*رئيس «معهد الاستشراق» التابع لأكاديمية العلوم الروسية/ موسكو​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى