النموذج القَبَلي في شرق اليمن لاحتواء النزاعات

> بقلم أحمد ناجي*

> ملخّص:
تستند محافظة المهرة في شرق اليمن على مدوّنة سلوك قَبَلية لتفادي أسوأ تجاوزات الحرب الأهلية اليمنية. وتقدم بذلك نموذجًا محليًا لاحتواء النزاعات يمكن أن تستفيد منه مناطق يمنية أخرى.

تلتزم قبائل محافظة المهرة الواقعة في شرق اليمن، على الحدود مع عُمان، بمدوّنة سلوك في الحوكمة القبلية ساعدت السكان على التوسّط في النزاعات واحتواء الصراعات في منعطفات بارزة من تاريخ المنطقة. كان ذلك كفيلاً بمنح المهرة والمناطق التي يمتدّ فيها المجتمع المهري قدراً من الاستقرار النسبي، حتى في أزمنة الحرب. واليوم، فيما تتوالى الحرب اليمنية فصولاً، تُشكّل المهرة ساحة صراع على النفوذ بين السعودية من جهة وعُمان من جهة أخرى. بيد أن مدوّنة السلوك المهرية أتاحت لهذه المنطقة البقاء في منأى عن أسوأ التجاوزات التي رافقت الصراع، وساهمت في تقييد النفوذ العسكري السعودي هناك. غالباً ما تُصرَف الأنظار عن المقاربة المهرية، بيد أنها قد تقدّم الدروس والعبر حول كيفية تخفيف حدة التوترات بين الجهات المتحاربة في مناطق يمنية أخرى مزقتها الحرب.

نقاط رئيسة
رسم الموقع الجغرافي للمهرة، وخصوصاً الحدود التي تتشاركها مع عُمان شرقاً، معالم تقاليدها وعاداتها الاجتماعية.
خلال الثورتين اللتين تأثرت بهما المهرة في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، برزت التقاليد القبلية المهرية وساعدت السكان المحليين على التوصّل إلى التسويات واحتواء تأثيرات النزاعات.

نجح المهريون، عبر التقيّد بمدوّنة سلوكهم طيلة الحرب الأهلية اليمنية الراهنة، في تفادي خوض صراع متواصل بين بعضهم البعض، على الرغم من انقسام المجتمع المهري بين موالين لعُمان من جهة، وموالين للسعودية من جهة أخرى. كذلك، ساعدت مدوّنة السلوك القبائل المهرية في تقويض قدرة المملكة على فرض إرادتها على المنطقة في أعقاب التدخّل العسكري السعودي.

توصيات
أهمية فهم تاريخ شرق اليمن والدور الأساسي الذي لعبته الولاءات القبلية في النزاعات التاريخية التي شهدتها المنطقة. فالولاءات القبلية المهرية الممتدة إلى ما خلف حدودها ساعدت في إخماد جذوة الكثير من الخلافات والنزاعات على مدى العقود الأخيرة، بما في ذلك ثورة ظفار التي شهدتها سلطنة عُمان المجاورة لليمن في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم.

دراسة كيف ساعدت بعض السمات الأساسية من الهوية القبلية المهرية في التوسّط من أجل حل النزاعات وتهدئة الصراعات ضمن ظروف معينة. فالولاءات القبلية في المهرة، ولاسيما توثيق عرى الوحدة بين القبائل، والامتناع أو الحد من العنف في الوسط القبلي في مراحل تاريخية بارزة، ساهمت تارةً في إنهاء الصراعات وطوراً في الحيلولة دون استفحالها.

تقصّي إمكانية أن تعيد قبائل أخرى في اليمن اكتشاف وتبنّي ممارسات شبيهة بمدوّنة السلوك المهرية باعتبارها وسيلة محتملة لوقف أو أقلّه إدارة النزاعات. على الرغم من الخصائص الاجتماعية والثقافية واللغوية المتفردة التي يتّسم بها سكان المهرة، إلا أنهم يشبهون في ثقافتهم ورؤيتهم العامة وتنظيمهم الاجتماعي سائر اليمنيين في مناطق أخرى من البلاد. فمدوّنة السلوك المهرية تستند إلى خمسة تقاليد متعلقة بإدارة النزاعات وتشكّل أيضاً، سواء فراداً أم بالجملة، جزءاً من ثقافات القبائل الحِميرية والهمدانية والمذحجية.

جزيرة من الهدوء النسبي
اندلعت الحرب الأهلية اليمنية في العام 2014، ثم تفاقمت لاحقًا بفعل التدخل العسكري بقيادة السعودية في العام 2015. اجتاحت هذه الحرب أجزاء كبيرة من البلاد ومزّقت نسيجها الاجتماعي. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2019، كانت الحرب قد أسفرت عن مقتل 100000 شخص في أرجاء البلاد كافة، وعن تشريد أكثر من 3.6 ملايين شخص.1 ومع أن محافظة المهرة بعيدة كلياً عن المناطق التي تشهد مواجهات مسلحة، إلا أنها وجدت نفسها في مركز صراع إقليمي وُجد نتيجة مزيج من ديناميكيات الصراع والمنافسة الإقليمية بين السعودية وكلٍّ من إيران وعُمان. مع ذلك، يبدو الصراع في المهرة صراعاً مسيطراً عليه من قبل المجتمع المهري، على الرغم من التباين الكبير بين الفاعلين الإقليميين، إذ أن ضحايا هذا الصراع منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2017 تشكّل رقماً لا يذكر إذا ما قورن بالمناطق الأخرى. إضافة إلى ذلك، ما زالت المهرة وجهة لعشرات الآلاف من الأشخاص الذين شُرِّدوا من مناطق أخرى في البلاد.2

في العام 2017، أي بعد مرور سنتين على التدخل العسكري بقيادة السعودية الرامي إلى إعادة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي إلى سُدة الحكم، وتأمين الحدود السعودية-اليمنية، بدأ فصل جديد من فصول الحرب في اليمن. فقد ادّعى السعوديون أن حدود عُمان مع منطقة المهرة تُستخدم لتسهّل على إيران عملية تسليح المتمردين الحوثيين. وعبر إرسال قوات عسكرية إلى المهرة، في مسعى إلى وقف تهريب السلاح للحوثيين، بحسب الرواية السعودية، لكن يبدو أن هناك أهداف أخرى تكمن في التصدّي للنفوذ العُماني المتنامي في المحافظة، وتأمين منفذ استراتيجي على بحر العرب، بحسب الطموح السعودي القديم في المنطقة. أدّى تدخل القوة الصلبة "العسكري" الذي تتبعه السعودية مقابل نهج القوة الناعمة الذي تفضّله عُمان إلى دقّ إسفين الشقاق داخل المجتمع المهري الذي يستند إلى بنية قبلية، أكثر تماسكًا من قبائل معظم أرجاء اليمن. وقد شهدت قبائل عدة انقسامات داخلية بسبب المواقف المتضاربة لأعضائها حيال التدخل السعودي.3 (انظر الخريطة 1)

اندلعت أعمال عنف متفرّقة بسبب التدخل السعودي في المهرة – بين القوات السعودية والقبائل المهرية، وبين قبائل مختلفة على حدٍّ سواء. وشهدت المحافظة حادثتين خطيرتين.4 ففي تشرين الثاني/نوفمبر 2018، قُتل اثنان من أبناء قبيلة مناوئة للسعودية على أيدي قوات مدعومة سعودياً في منطقة أنفاق فرتك في حصوين. وفي نيسان/أبريل 2019، حدث اشتباك بين عناصر من الحراسة الأمنية التابعة لمحافظ المهرة المدعوم من السعودية، وبين رجال قبائل يمنيين عند حاجز نصبه القبليون في منطقة تُدعى اللبيب، ما أسفر عن وقوع عدد من الإصابات لدى الجانبين.

أدّت أحداث عنيفة مشابهة في مناطق يمنية أخرى إلى معارك توالت فصولاً. لكن في المهرة، تم تفادي مفاعيل هذه الحوادث، كما تم احتواء العديد من التوترات من خلال معالجتها قبل تطورها إلى أعمال عنف، وذلك عبر الالتزام بمدوّنة سلوك عرفية قبلية غير مكتوبة، تضمن عدم التصعيد لضمان عدم انزلاق الأحداث إلى اشتباكات عنيفة أو مواجهات مسلّحة مديدة وواسعة النطاق.5 تسهم هذه المدوّنة في الحد من الصراعات، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى أنها تشجّع على التكافل والتضامن على المستوى القبلي الأوسع، وعلى تجنّب العنف بين القبائل. ربما ساعد موقع المهرة الجغرافي المعزول على طول الحدود اليمنية-العُمانية أيضاً على تهدئة وتائر العنف في المنطقة، لكن مناطق أخرى قليلة السكان على الحدود مع السعودية أبدت قدراً أقل من اللحمة الاجتماعية، وعنفاً أكبر بالمقارنة. ومع أن معظم اليمنيين خارج المهرة وسائر الأطراف الخارجية المنخرطين في الحرب الأهلية اليمنية لم يفطنوا بعد إلى مدى تأثير هذه الحوكمة القبلية، إلا أنها تحمل دروساً من أجل خفض الأكلاف الباهظة للصراعات، جزئياً على الأقل.

مدوّنة السلوك المهرية
تستند مدوّنة السلوك المهرية على خمسة تقاليد قبلية أساسية متعلقة بالحرب. أولاً، إن التضامن بين المهريين عابرٌ للقبائل. فمع أن قبائل المهرة تتنازع فيما بينها أحياناً، وقد تستغل أطراف خارجية هذه الخلافات، بيد أن هذه الجهات الخارجية لا تتمتع سوى بهامش محدود للتصرّف داخل المجتمع المهري. فما إن يشنّ طرف خارجي هجوماً مباشراً على قبيلة أو شخص من المهرة، حتى يقف معظم المهريين صفّاً واحداً ضد الغريب، بغضّ النظر عن انتماءاتهم القبلية.

ثانياً، الدم لا يصبح ماء لدى المهريين: فالانقسامات بين القبائل لا تبرّر الانجرار إلى الفتنة، كما أن ارتكاب أعمال عنف على يد مهريين ضد آخرين من أبناء جلدتهم لايزال من المحرّمات. صحيحٌ أن العنف بين القبائل المهرية نادرٌ، إلا أنه يحدث بين الفينة والفينة، لكن العنف ضمن العشائر أو المجموعات الفرعية داخل القبيلة نفسها يكاد يكون غير وارد إطلاقاً.6 إذن، تكمن المفارقة في أن الانشقاقات ضمن القبائل نفسها تسهم في مناهضة العنف أكثر مما تفعل الانقسامات في ما بينها. فقد تقيم هذه العشيرة أو تلك تحالفاً سياسياً مع طرف خارجي، لكنها ستتمنّع عن استخدام القوة بالنيابة عن جهات خارجية. ويعود السبب في ذلك إلى وجود أحلاف قبلية تاريخية بين مختلف فئات المجتمع المهري.

ثالثاً، حمل السلاح في الثقافة المهرية لا يعني بالضرورة استخدامه. فإذا رغبت قبيلة مهرية في استعراض مهاراتها القتالية أمام قبائل أخرى أو جهات خارجية، ستعمد في غالب الأحيان إلى تنظيم عرض شبه عسكري. وهكذا، تظهر القبيلة أنها مجهّزة للانخراط في حرب من شأنها أن تكبّد أعداءها خسائر جمّة. وفي بعض الحالات، أفضت مثل هذه الاستعراضات إلى تقليص احتمال نشوب أعمال عنف منظّمة من خلال تقديم صورة واضحة عن قدراتها أمام الخصوم، وهو الأمر الذي يدفع مشايخ القبائل النافذين الذين يملكون صلاحيات اتّخاذ القرارات، إلى تجنّب الأكلاف الباهظة للصراع والتحلّي بالحكمة اللازمة لتقديم التنازلات والتوصّل إلى حلول وسط.

رابعاً، عندما ينشب نزاع مسلّح بين القبائل المهرية، لا تذهب الغنائم إلى الطرف المنتصر، بل على العكس، يقع عبء تحقيق المصالحة على كاهله، إذ يتوجّب على الظافر منح خصمه المهزوم تعويضات مالية تغطّي قيمة الخسائر التي مُني بها. يمثّل هذا رادعاً مادياً يثني القبائل عن خوض نراع مفتوح مع بعضها البعض، حتى وإن كانت الفرص كبيرة بإحراز الفوز. على سبيل المثال، طبّق السلطان العُماني الراحل قابوس هذا التقليد بناءً على فهمه للأعراف القبلية لمنطقة ظفار التي تتقاسم الجغرافي والعادات والتقاليد مع قبائل المهرة في أعقاب ثورة ظفار. ففي الثقافة المهرية، النصر العسكري عبء ثقيل الوطأة.

خامساً، غالباً ما ينجح التوسّط السريع والمباشر بين القبائل في الثني عن أعمال العنف أو على الأقل في تضييق نطاقه. فحين تنشب خلافات بين القبائل، غالباً ما يضطلع مشايخها بدور الوسيط والمحكّم بين الفصائل المتخاصمة لإخماد جذوة التوتر ومساعدتها على حل النزاعات قبل أن تصل الأمور إلى حدّ الاقتتال الشرس. ففي المجتمع المهري، تتداعى الوساطات القبلية بصورة كبيرة، وتمتلك القبائل هرمية قبلية تمكنهم من الانتظام الذاتي، وحل أي خلافات قد تظهر.

لا بدّ من استعراض سريع لبعض المحطات من التاريخ الحديث للمهرة وسكانها، من أجل فهم كيف اندمجت التقاليد القبلية المتناثرة ضمن مدوّنة سلوك تساعد في خفض وتائر النزاعات أو احتوائها. يُشار إلى أن الموقع الجغرافي الذي تحتلّه المهرة، ولاسيما حدودها مع عُمان شرقاً، رسم معالم تقاليدها وأعرافها الاجتماعية. فمدوّنة السلوك المهرية المتجذرة في ذهنية المجتمع المهري برزت خلال ثورتين – إحداهما في اليمن الجنوبي الوليد آنذاك، وثانيهما في عُمان – غرق في لُججهما موطن المهريين في جنوب شبه الجزيرة العربية خلال ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم.

منطقة مجبولة بالصراعات
تأسست سلطنة المهرة القبلية بمعظمها في العام 1432، وعلى الرغم من نمط الإدارة القبلية التقليدية، نعمت السلطنة باستقلال كامل أو جزئي طيلة خمسة قرون. ونجحت في الحفاظ على استقلالها الذاتي حتى في العقود الثمانية الأخيرة من تاريخ هذه السلطنة (1886-1967)، التي كانت خلال معظمها جزءاً من محمية عدن التي أنشأها البريطانيون. (خلالها كان أرخبيل سقطرى الواقع في المحيط الهندي، خاضعاً أيضاً إلى حكم السلطنة). وعقب انسحاب البريطانيين في العام 1967، أصبحت المهرة جزءاً من جنوب اليمن، الذي اندمج بنظيره الشمالي في العام 1990 لتشكيل جمهورية اليمن القائمة راهناً.

ونظراً إلى أن السلطنة المهرية عمّرت طويلاً، تمكّنت من تعزيز هوية إقليمية ومجموعة من الروابط الاجتماعية والثقافية لدى سكان المهرة متجاوزةً الانقسامات القبلية: فالمهريون يتحدثون اللغة المهرية، وهي لغة سامية مختلفة عن اللغة العربية، ونادراً ما يتزوجون أشخاصاً من خارج المهرة. ومع بدء الحكم البريطاني بالانحسار في أوائل الستينيات، بات التضامن المهري بادياً للعيان. وبرزت مدوّنة السلوك التي يتّسم بها المهريون في منتصف الستينيات، ثورة ردفان، وهي مقاومة مسلّحة سرّعت في أفول الحكم البريطاني في جنوب شبه الجزيرة العربية، فضلاً عن ثورة ظفار في عُمان المجاورة.

في العام 1963، أطلقت الجبهة القومية للتحرير شرارة الثورة ضد البريطانيين، أدّت إلى نشوب صراع دام لمدة أربعة أعوام، هي الفترة التي عرفت بثورة ردفان حسب تسمية الجبهة القومية، فيما سمّاها البريطانيون فترة "حالة الطوارئ في عدن". منذ البداية، نفّذت الجبهة القومية للتحرير عدداً من العمليات ضد أهداف في محمية عدن، التي كانت تضم القسم الأساسي من المهرة. لم يردّ البريطانيون بقوة فحسب، بل حاولوا إحكام قبضتهم على المنطقة إدارياً عبر حل محمية عدن وإلحاق المهرة بمحمية الجنوب العربي التي كانت تأسست حديثاً. لكن لا القبضة الحديدية ولا إعادة الهيكلة الإدارية نجحتا في إطفاء شرارة الثورة، وسُرعان ما اضطر البريطانيون إلى إعداد استراتيجية للخروج من المنطقة.

خلال تلك المرحلة المحفوفة بالضغوط، وضعت الجبهة القومية للتحرير نصب أعينها الحكام وسائر الأركان التي استندت إليها مختلف محميات الجنوب العربي، الذين اعتبرتهم دمى في أيدي البريطانيين. كانت الحملة التي شنّتها الجبهة القومية للتحرير بمثابة أزمة وجودية للمهريين. فسلطانهم كان يتعرّض للهجوم، وحكمهم الذاتي كان مهدّداً بالإلغاء، كما نُظر إلى هويتهم الإثنو-ثقافية على أنها على ارتباط وثيق بحالة التواجد البريطاني. أدرك المهريون أن مستقبلهم كجماعة محلية متمايزة وتتمتع بصلاحيات إدارة شؤونها الخاصة في دائرة الخطر. في غضون ذلك، عرفوا أنهم يفتقرون إلى القوة النارية العسكرية اللازمة لمنع سيطرة الجبهة القومية للتحرير على أرضهم بعد الانسحاب البريطاني.

في العام 1963، انضمّت مجموعة من شباب المهرة إلى صفوف اليسار في الكويت ثم عادوا بعدها إلى المهرة لينضموا إلى الجبهة القومية للتحرير.7 على الرغم من الاختلافات الإيديولوجية بسبب أفكارهم الماركسية، حافظ هؤلاء الشبان على روابطهم القوية مع سائر أبناء المهرة. وهؤلاء المهريون رفضوا رفضاً قاطعاً محاربة أبناء جلدتهم، بسبب حظر الصراع القبلي، ولاسيما داخل القبائل نفسها.

مع ذلك، إبّان انسحاب البريطانيين في العام 1967، أصبح منصب سلطان المهرة عيسى بن علي بن عفرار ضعيفاً باطّراد. وفي ذلك العام، نجحت الجبهة القومية للتحرير في إحكام سيطرتها على المهرة، واحتجزت السلطان وعدداً من مستشاريه الكبار، وصادرت ممتلكاته وممتلكات أبناء عشيرته. وفي أعقاب محاكمة عيّنت الجبهة القومية للتحرير أعضاءها، وُجد عددٌ من مرافقي السلطان مذنبين في التهم الموجهة إليهم، وحُكم عليهم بالإعدام، فيما حُكم على السلطان بالسجن لفترة طويلة.8

أتت هذه الاعتقالات وزجّ السلطان في السجن بمثابة ضربة قوية للمجتمع المهري. لكن السخط المتنامي في صفوف أعضاء مهريين نافذين في الجبهة القومية للتحرير أثّروا في سير الأحداث. فبحلول العام 1968، استطاع أعضاء مهريون نافذون في الجبهة القومية للتحرير تشجيع قيادة المنظمة على إعادة تشكيل سياساتها حيال المهرة. وفي غضون عام بعد سجن السلطان وحل السلطنة، أطلقت الجبهة القومية للتحرير سراحه.9 (وقد توفي بعد فترة وجيزة، مريضاً ومجرّداً من سلطاته). إضافةً إلى ذلك، ومع أن الجبهة القومية للتحرير ضمّت المهرة إلى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، عيّنت محمد عكوش أول محافظ للمهرة. كان عكوش من الرعيل الأول للمهريين الذين التحقوا بصفوف الجبهة القومية للتحرير في العام 1963.10 في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الحديثة العهد آنذاك تحت حكم الجبهة القومية للتحرير، تولّى هو ووجهاء مهريون آخرون في الجبهة القومية إدارة دفة مقاربتها حيال المهرة، وضمنوا تمتُّع هذه المنطقة باستقلال ذاتي محدود.

أتى الامتحان الثاني للمهريين في العام 1965، حين اندلعت في سلطنة عُمان المجاورة ثورة ظفار التي بدأت على شكل اشتباكات صغيرة محلية الطابع. فقد ألّبت الثورة القبائل الناقمة في محافظة ظفار العُمانية المهمّشة (والواقعة على الحدود مع المهرة اليمنية) ضد نظام السلطان العُماني الأسبق سعيد بن تيمور في مسقط. لكن ما لبث أن تحولت ثورة ظفار إلى صراع أكبر استقطب دولاً مجاورة عدة. وبحلول العام 1968، كانت المجموعة الثورية الأساسية تسمّي نفسها الجبهة الشعبية لتحرير ظفار والخليج العربي، وتحظى بالمساعدة من الجبهة القومية للتحرير في اليمن الجنوبي المجاور، والتي كان يشاطرها الثوار المبادئ الماركسية.أنشأ مقاتلو الجبهة الشعبية لتحرير ظفار والخليج العربي موقعاً عسكرياً في المهرة، أطلقوا منه هجمات عبر الحدود استهدفت القوات العُمانية. وغالباً ما تحمّل المدنيون في ظفار والمهرة الأكلاف الأكبر للرد العُماني على هذه الهجمات.11

حدا استخدام الجبهة الشعبية لتحرير ظفار والخليج العربي محافظة المهرة كساحة لمعاركها العسكرية، إضافةً إلى مشاعر الاستياء حيال الجبهة القومية للتحرير الحاكمة في جنوب اليمن والداعمة للجبهة الشعبية لتحرير ظفار والخليج العربي، بالكثير من سكان المنطقة إلى الانضمام إلى الفرق الوطنية العُمانية في معاركها ضد الثوار. تعزّز هذا التوجه بعد العام 1970، عندما تمت الإطاحة بتيمور على يد نجله قابوس الذي سعى إلى بناء روابط وثيقة مع القبائل المحلية في ظفار وكذلك مع جزء من المهريين في اليمن على حدٍّ سواء.12 آنذاك، تلقّى الجيش العُماني مساعدات من إيران والمملكة المتحدة ودول أخرى. لكن كانت معرفة القبائل الواسعة بالإقليم والديموغرافيا المحلية لا غنى عنها في المساعدة على قلب مسار الحرب ضد الثوار.13

المهريون الذين ساعدوا عُمان في الحرب كانوا وسطاء لأبناء منطقتهم. فهم نجحوا في دفع قابوس إلى حماية المهرة من ضربات انتقامية واسعة النطاق، جراء استخدامها المنطقة لدعم جبهة ظفار، على إثر اعتبار الثوار الظفاريين المدعومين من اليمن الجنوبي هذه المنطقة نقطة انطلاقتهم الرئيسة. لذا، وعلى الرغم من وقوع المهرة في براثن حرب شرسة ارتدت أبعاداً إقليمية ودولية، استطاع المجتمع المهري من خلال علاقاته مع قبائل الداخل العماني من حماية مناطقه من أسوأ فصول النزاع.

عندما قمعت عُمان أخيراً ثورة ظفار في بداية العام 1976، وجد المهريون الذين حاربوا جنباً إلى جنب مع الجيش العماني وحلفائه أنفسهم في صفّ المنتصرين. في البداية، لم يكن واضحاً أبداً كيف ستتصرف الدولة العمانية بقيادة قابوس مع الظفاريين المهزومين. كانت الإجراءات العقابية احتمالاً ممكناً. لكن، وتماشياً مع تقاليد القبلية، نجح عددٌ من المهريين الذين باتوا يتمتعون بعلاقات مع عُمان في تحقيق تقارب بين الجانبين. تبنّى قابوس، الذي تحدّرت أمه من ظفار، المصالحة مع الأفراد الذي انخرطوا في الجبهة، إذ كان من مصلحته ترسيخ الروابط الإيجابية مع المهريين والظفاريين لكي تصبح الحدود مع عُمان أكثر استقراراً وأمناً. هذا ما جرى، فعلى سبيل المثال أصبح يوسف بن علوي بن عبد الله، الذي كان أحد المنخرطين في ثورة ظفار في بداياتها، وزير خارجية قابوس لفترة طويلة بدءاً من أواخر التسعينيات حتى اليوم.

كانت النتائج إيجابية بالنسبة إلى عُمان والظفاريين على حدٍّ سواء. فقد أطلق السلطان برامج ترمي إلى تحقيق النمو الاقتصادي، ومنح ظفار امتيازات لتحقيق حالة من العدالة الاجتماعية. خفّفت هذه الخطوة من وطأة الهزيمة في صفوف أبناء ظفار، وعزّزت عملية دمج إقليمهم في الدولة العُمانية. في المقابل، نجح المهريون مجدداً في استخدام موقعهم للتقليل من حدة الصراع، ومن الانتقام الذي كان على وشك الحدوث بسبب استخدام مناطقهم. وهكذا، توطّدت أواصر العلاقة بين السلطان قابوس والمهريين. يُضاف إلى ذلك أن الفهم الذي أبداه لتقاليدهم نجم عنه تأثيرات انعكست على الوضع في المهرة بعد مرور عقود عدة، أي خلال الحرب الأهلية اليمنية الراهنة التي تتوالى فصولاً. وهذا ما يفسّر التأثير العُماني في منطقة المهرة إلى اليوم.

المهرة والحرب الأهلية الراهنة في اليمن
في تشرين الثاني/نوفمبر2017، دخلت الحرب الأهلية في اليمن مرحلة جديدة. حتى ذلك الحين، كانت القوات العسكرية السعودية تركّز جهودها على محافظات صعدة والجوف وحضرموت. لكن السعودية سرعان ما دخلت إلى المهرة باعتبارها قائدة التحالف العربي الذي تضمّن الإمارات ودولاً أخرى، واستولت على منشآت أساسية هناك.سعى السعوديون إلى تقليص النفوذ العماني في المهرة، ولاسيما على ضوء قناعتهم بأن عُمان تسمح لإيران باستخدام أراضيها وأراضي المهرة المجاورة لنقل الأسلحة إلى المتمرّدين الحوثيين. كذلك، أراد السعوديون تأمين منفذ استراتيجي على بحر العرب، يتيح لهم بناء ميناء وإنشاء معبر لشحن الصادرات النفطية من أجل تجنّب دوريات القوات البحرية الإيرانية في مضيق هرمز.14

منذ البداية، أعربت قبائل مهرية عدة جهاراً عن معارضتها التدخل السعودي. فالمشكلة كانت الطبيعة السافرة للتدخل الخارجي في شؤون المهرة والخوف من أن تضعف السعودية الرابط المهم الذي يجمع المهرة بعُمان. فقد توطّدت على مرّ العقود العلاقة التي نشأت بين عُمان والمهرة إبان ثورة ظفار؛ وطيلة تلك الفترة، تآلف العُمانيون مع عادات سكان المهرة، بما في ذلك مدوّنة السلوك المهرية. وفي أعقاب التوقيع على اتفاقية ترسيم الحدود مع اليمن في العام 1992، استمرت عُمان بمنح الجنسية العُمانية للكثير من السكان المهريين، وسهّلت على الكثير منهم الانتقال والعيش في السلطنة.15 وقد قرّبت الحرب الأهلية اليمنية الجانبين من بعضهما البعض. فالاستقرار الاقتصادي الذي تنعم به المهرة اليوم يعود بشكلٍ كبير إلى قدرتها على تأمين الوقود والغذاء من عُمان، فيما تنسّق مسقط باطّراد مع القبائل المهرية حول أمن الحدود في ظل تفكّك الدولة اليمنية.

لم يحظَ التدخّل السعودي بالترحيب من قبل أبناء المهرة، لكن ما زاد الأمور تعقيدًا هو تبنّي السعوديين سياسة الأمر الواقع في تعاملهم مع المجتمع المهري، ومحاولة فرض أساليبهم على المهريين.

كانت محاولات السعودية الأولية لتفادي اندلاع شرارة المعارضة تحمل قدراً من المواجهة المباشرة من الداخل القبلي. وخير دليل على ذلك قرار السعوديين إحضار عدد من مشايخ القبائل المهريين عبر الحدود من محافظتَي الخرخير وشرورة الواقعتين في المملكة إلى المهرة ومنحهم مناصب رفيعة في مؤسسات الدولة التي أُعيد تنظيمها حديثاً.16 لكن هذا لم يغيّر شيئاً، إذ اعتبر الكثير من سكان المهرة هؤلاء بأنهم يقومون بخدمة أجندة السعودية.

بعد فشلهم في فرض شروطهم على المهريين بهذه الطريقة، تبنّى السعوديون فكرة التأثير على المجتمع المهري بصورة مباشرة من خلال دعم بعض الأطراف فيه، لكسب ولاءاتهم مستنسخين الأسلوب العُماني. وقد حقّقوا قدراً من النجاح على هذا الصعيد. ففي الغالب، عوّل السعوديون على مجموعات قبلية فرعية، أو مستاءة من النفوذ العُماني في المهرة، أو على وجود مزيج من الاثنين معاً. وفي حالة واحدة على الأقل، عمدوا ببساطة إلى استخدام المال السياسي لفعل ذلك.17 فعلى سبيل المثال، ثمة انقسام بين كلٌّ من قادة قبيلتَي بلحاف وصمودة - وهما اثنتان من القبائل الفرعية الأكبر في المهرة – إلى فصيلين، الأول موالٍ للسعودية والثاني معارض لها.18

أمّنت هذه الإجراءات للسعوديين موطئ قدم في المجتمع المهري. لكن، نظراً إلى مدوّنة السلوك المهرية، بقيت مساعي اليمنيين الموالين للسعودية محدودة جدّاً في فرض الأجندة السعودية على أبناء قبيلتهم. كما لم ينجحوا في تحقيق هدفهم الأكبر المتمثّل في استخدام المجموعات القبلية الفرعية المتحالفة معهم لإحكام سيطرة كاملة على القبائل. فالحظر المهري على إثارة الفتن داخل القبائل أحبط مثل هذه المساعي.

تشكّل قضية علي الحريزي، وهو شخصية قبلية مهرية مدعومة من عُمان، خير مثال على ذلك. في نيسان/أبريل 2018، نظّم سكان الغيضة احتجاجات طالبوا فيها بخروج القوات السعودية من المهرة.19 ردّت السعودية عبر تشكيل لجنة وساطة سعودية-مهرية مكلفة بتيسير عملية تسليم المؤسسات البارزة في المدينة إلى أشخاص محليين، مقابل وقف الاحتجاجات. لكن قبل أن تنهي اللجنة مداولاتها، أصدر هادي، الذي كان يتّخذ من الرياض مقرّاً له، قراراً قضى بإقالة عبدالله بن كده من منصبه كمحافظ للمهرة، وبتعيين راجح باكريت، الحليف المخلص للسعودية، خلفاً له.20 وأقال هادي أيضاً ثلاثة مسؤولين أمنيين محليين بارزين معروفين بتعاطفهم مع المتظاهرين، وعيّن في مناصبهم أشخاصاً موالين للسعودية. نزل المهريون إلى الشوارع مجدداً، وانضم إليهم المسؤولون الأمنيون الذين أقالهم هادي، ومن ضمنهم علي سالم الحريزي، الذي لعب دوراً قيادياً في الاحتجاجات المستمرة.

عندما أصدرت قوات عسكرية تخضع بإحكام إلى سيطرة السعودية، مذكرة اعتقال بحق الحريزي، عمّت المهريين موجة استنكار كبيرة. كانت ردة فعل المهريين الموالين للسعودية والمتحدّرين من قبائل غير قبيلة الحريزي ذات دلالة كبيرة. فعلى الرغم من اختلافاتهم مع الحريزي، شعر هؤلاء المهريون الموالون للسعودية بأن السعوديين لم يحترموا الكيان القبلي المهري بالقيام بمثل هذا الأمر. وفي خطوة جسّدت التضامن القبلي الأوسع، الذي يُعدّ أحد المبادئ المؤلِّفة لمدوّنة السلوك القبلية في مثل تلك الظروف، سار مئات الرجال المتحدّرين من مختلف القبائل المهرية إلى جانب الحريزي عندما ندّد علناً بإصدار مذكرة اعتقال بحقه.21 يُضاف إلى ذلك أن الحريزي بات يتنقّل في أرجاء المهرة بمرافقة موكب كبير يتألّف من عشرات الرجال المسلحين في شاحنات بيك-آب أُعيد تجهيز العديد منها لغايات عسكرية.22 في صفوف المهريين، حملُ السلاح لا يعني استخدامه، بل يهدف إلى تقديم صورة واضحة للخصوم بضرورة التحلّي بالحكمة اللازمة للتوصّل إلى حلول وسطى. وفي غضون أيام، ما كان من السعوديين إلا أن تبنّوا مقاربة هدفها احتواء المخاطر:إذ نفى المتحدث باسم التحالف العربي بقيادة السعودية في اليمن إصدار التحالف مذكرة توقيف بحق الحريزي.23 في وجه التضامن القبلي الأوسع، وجد السعوديون أنفسهم مضطرّين إلى التراجع عن موقفهم.

وقعت حادثة أخرى، وهي اشتباكات نفق حصوين التي سلّطت الضوء على مدى محدودية النفوذ السعودي على حلفاء الرياض المهريين. ففي تشرين الثاني/نوفمبر، أطلقت قوات الأمن اليمنية المدعومة من السعودية النار على مجموعة من الأفراد المناوئين للوجود العسكري السعودي - في نفق حصوين وبالقرب منه، ما أسفر عن سقوط قتيلين في صفوفهم.24 ويُشار إلى أن العنف المرتكب على أيدي الغرباء ضد المهريين هو خط أحمر يستدعي إبداء التضامن القبلي الأوسع. لذا، وكما حدث في حادثة الحريزي، صدرت إدانة لتصرّف قوات الأمن من أقطاب المجتمع المهري كافة، بما في ذلك الدوائر الموالية للسعودية.25

كذلك، عقد المجلس العام لمحافظة المهرة وسقطرى، الذي يضم مشايخ قبليين وقادة مجتمعيين، لقاء لمناقشة الحادثة، وأصدر بياناً أدان فيه بأشد العبارات تصرّف قوات الأمن الموالية للسعودية، رافضاً وصف الضحيتين بأنهما مهرّبا سلاح ومخدرات، ومشدّداً على ضرورة إحالة المذنبين (الذين أشار إليهم البيان بالـ"قتلة") إلى القضاء، ومؤكّداً على أحقية المواطنين المدنيين في إقامة الوقفات والاعتصامات السلمية.26 حقّق هذا البيان النتيجة المرجوّة، إذ فتحت السلطة المحلية المدعومة من السعودية تحقيقاً في الحادثة وتشكّلت لجنة لإحالة المذنبين إلى المحاكمة.27 بعبارة أخرى، أُرغم السعوديون على تنفيذ أحد المبادئ الأساسية من مدوّنة السلوك المهرية: أي أنه بعد وقوع اشتباك مسلّح، يقع عبء جبر الضرر على عاتق المنتصر.

في نهاية المطاف، وعبر إجبار السعوديين على التكيّف، جزئياً على الأقل، مع منظومة السلوك القبلية، وعبر خفض وتائر الصراعات بين الأطراف كافة، أبدى المهريون قدرة على بسط نفوذهم وفرضوا أنفسهم كشركاء في عملية تقرير مصيرهم. لم يكترث السعوديون في البداية بالعادات المحلية، لكنهم سرعان ما أُرغموا على مراجعة حساباتهم. فقد أدركوا أن السبيل الوحيد لممارسة نفوذ فعلي في المهرة هو من خلال التحالف مع القبائل أو العشائر المحلية. ولكي يحظى السعوديون بالمقبولية في صفوف هذه المجموعات، كان لا بدّ من احترام قواعد المهريين والتقيّد بها، أو على الأقل عدم انتهاكها صراحةً.

مدوّنة السلوك المهرية: قدرة لم تُستغل بعد على تهدئة النزاعات

لا شك أن تعامل المهريين مع تداعيات التواجد العسكري السعودي في منطقتهم تحمل تأثيرات تطال سائر مناطق اليمن. فإعادة اكتشاف التقاليد المحلية لفضّ النزاع قد تساعد اليمنيين على إدارة الحوادث التي تنطوي على تجاوزات عنيفة في بلدهم الذي تمزّقه الحرب، على أمل وقفها نهائياً. على الرغم من خصوصياتهم الاجتماعية والدينية، يشبه المهريون قبائل يمنية عدة أخرى من حيث ثقافتهم ونظرتهم للحياة وتنظيمهم الاجتماعي. فالتقاليد الحربية الخمسة التي تتمحور حولها مدوّنة السلوك المهرية تشكّل، فراداً أو بالجملة، جزءاً من ثقافات القبائل الحِميرية (التي تعتبر أن المهريين يمثّلون أحد فروعها)28 والهمدانية والمذحجية. وفي حال عمد عدد من القبائل الأخرى إلى تبنّي وترقية بعضٍ من السبل التقليدية الرامية إلى التوسط في النزاعات، والتي تحاكي الممارسات المهرية، قد تنجح هذه القبائل في وضع حدٍّ للصراعات الدامية، وربما حتى في إعطاء المناطق الغارقة في لُجج الحرب هدنة ما، بغضّ النظر عمّا إذا كُتب لهذه الجهود أن تؤدي إلى وقف تام للأعمال العدائية أم لا.

أظهرت الحوكمة القبلية المهرية مراراً وتكراراً أهميتها وجدواها في المساعدة على خفض وتائر الصراعات والتوسط في النزاعات في منعطفات عدة من تاريخ اليمن. أحدث مثال على ذلك الحرب الأهلية اليمنية التي تتوالى فصولاً. ففي خضم هذا الصراع، لاتزال المهرة تنعم نسبياً بالسلام والاستقرار الاقتصادي، مقارنةً مع معظم المناطق الأخرى في البلاد.29

لكن حتى الآن لا يبدو أن الكثير من المراقبين اليمنيين يعيرون ذلك اهتماماً. فحتى أولئك المنخرطون في مجال حل النزاعات أهملوا التفكير في إمكانيات وإيجابيات العمل مع القبائل اليمنية لاستنساخ المقاربة المهرية في مناطق أخرى من البلاد، أو على الأقل لاستقاء الدروس والعبر منها. وتركّزت الجهود على جلب تجارب خارجية قد لا تتوافق مع الحالة اليمنية. نظراً إلى أن القواسم المشتركة الثقافية والقبلية بين المهريين وسائر اليمنيين كبيرة، تملك المقاربة المهرية لإدارة واحتواء النزاعات على الأرجح قدرة غير مستغلّة بعد على كبح جماع أسوأ التجاوزات التي تشهدها الحرب الأهلية اليمنية المديدة والمكلفة.

شُكر
هذه الدراسة أُنتجت بدعم منشبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية (The X-Border Local Research Network) التي تشكّل جزءاً من برنامج X-Border Conflict Evidence, Policy and Trends (XCEPT) التابع لوزارة التنمية الدولية في المملكة المتحدة. وهي تحظى بتمويل من مشروع UK Aid التابع للحكومة البريطانية. شبكة البحث المحلية حول القضايا العابرة للحدود الوطنية هي ثمرة شراكة بين كلٍّ من مؤسسة آسيا ومركز كارنيغي للشرق الأوسط ومعهد الأخدود العظيم، وهي تهدف إلى إجراء الأبحاث الآيلة إلى تحقيق فهم أفضل لأسباب النزاعات في المناطق الحدودية وتأثيراتها وأبعادها الدولية، ودعم اعتماد أساليب أكثر فاعلية لصنع السياسات، وإعداد البرامج الإنمائية، وبناء قدرات الشركاء المحليين. إن المحصلات، والتفسيرات، والخلاصات الواردة في هذه الدراسة تعبّر برمتها عن وجهات نظر المؤلّفين، ولاتعكس بالضرورة آراء مركز كارنيغي للشرق الأوسط أو حكومة المملكة المتحدة.

*أحمد ناجي باحث غير مقيم في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث تتركز أبحاثه على الشؤون اليمنية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى