تجليات التعري.. تركيا مقابل أمريكا وإسرائيل في المنطقة العربية

> د. أحمد سنان الجابري

> بعد أن تخلص الأعراب من وجع الرأس الذي ظل يذكرهم بفلسطين، ولو من باب المزايدة، خلدوا للراحة والحلم بجنة الشرق الأوسط الجديد. شرق أوسط يجب أن يكون خاليا من الثورات والتحرير والكلام الفارغ الذي لا يدع مجالا للسكينة وراحة البال.

اليوم خمر وغدا خمر، دعك من امرئ القيس. الثروة لا تحتاج للمنغصات، تحتاج فقط لكاس وغانية وطاولة قمار يوضع عليها كل شيء، وليس الثروة فحسب. ما حاجة الأعراب للثروة إذا لم تلبسهم ثوب النبالة؟ (فكل شيء هالك)، أنتم طيبون- قال ترامب- ولديكم الكثير من المال وستقاسموننا إياه، لستم بحاجة لصناعة أمنكم الخاص. نحن سنصنع لكم أمنا وأنتم ستدفعون. لا يهم ماذا تدفعون. نقبل منكم كل شيء معادلة. سهلة للغاية.

هذه المعادلة على بساطتها لم يفهمها كثيرون. لم يكن هؤلاء مضطرون للخوض في خيارات قاتلة قبل قيامهم بعملية التدمير الذاتي.

لماذا الصراخ؟
اليوم تسمع الصراخ والعويل من الخطورة التي تمثلها إيران وتركيا على المنطقة العربية وأمنها القومي على ثروات العرب وثقافة العرب. لا تمثل أمريكا وإسرائيل أي خطورة على العرب وثقافتهم وثرواتهم؛ فالجيب واحد، ولا تهددان الأمن القومي العربي!

لماذا الصراخ؟
كان للحديقة التي يقطنها الشيطان جدران عالية من الشرق والشمال لا يمكن تجاوزها والبحر حارسها الأمين، لكن الشيطان الذي أخرج أبويكم من الجنة أتى على جدران الحديقة مرة بالطرق ومرة بالماء حتى تصدعت وهوت، كشفت الحديقة وتعرت أمام كل هوام العالم.
لعقود كثيرة ظلوا يغدقون المال والدعم على التنظيم الدولي حتى أغرقوا مصر ببحر من ألألام، والأهوال والمشكلات ثم: نتحداكم تخرجوا منها، ثم عقروا الناقة العراقية. لماذا عقرتم الناقة يا قوم؟؟

كانت العراق قد قطعت أشواطا بالسنين الضوئية بالنسبة للأعراب، بعيدة لا تستطيع عقولهم التفكير بسلوك دروبها الشائكة والخطرة.
بدون العراق سيكون العالم أكثر أمناً، ونحن بمأمن أكثر سنكون، هكذا خاطبوا غرائزهم ... دفعوا ... ودفعوا... ودفعوا، وسيظلون يدفعون... سقطت بغداد كما أرادوا (لعلهم سكروا). من التاريخ نتعلم: عندما يسقط كل ما حولها هكذا فهم هولاكو في حينه، لكن أحدا لا يقرأ التاريخ، لكن أحدا لا يفهم التاريخ وإن قرأه أو سمع به.

لماذا الصراخ؟
لم يكن لإيران أن تبتلع العراق بدون أموالكم. لم تستطع الصهيونية تهريب يهود العراق وتسيير رحلات جوية سرية بدون الدعم البريطاني، ولم تكن ولم يكن لإسرائيل أن تتسرب إلى العراق، وتأتي على كل شيء فيه مؤسسات علمية وعلماء وصناعة وصناع وأثار وتقنية إلا بدوافعكم!

لماذا الصراخ؟
الشرق الأوسط الجديد يحتاج إلى التضحيات. لا يهم تهون التضحيات حتى آخر عربي. لا بد من تذليل كل الصعوبات وإزالة كل المعوقات التي تعترض طريق هذا الشرق الأوسط، هذا الجديد، ما العراق إلا عقبة وأزحناها... العراق أو صدام لا يهم كلاهما شيء واحد، والأسهل تدمير صدام، عفوا العراق. سيعتاد العراقيون الحياة البائسة الممزوجة بالمرض والتخلف. لا يهم، لكن سيكون لنا شرق جديد.

هناك عقبات أخرى يجب اجتيازها (سوريا، ليبيا) فقد زاد ضجيجهما و(العيار اللي ما يصيبش يدوش)، يجب إسكاتهما وإلا فلن يكون هناك شرق جديد. حياتنا بدون هذا الشرق الجديد ستكون بدون مذاق. لكن لا، فقد جمعنا لهم جنود الإنس والجن حتى من (الويغور) جئنا بهم لفيفا، نحن نهتم بحياة السوريين أكثر من اهتمامهم بأنفسهم، ألم تروا كم اهتممنا بفلسطين؟ فمن للسوريين غيرنا نحن الأعراب؟

لقد أنشأنا لهم الجيوش والكتائب (الجيش الحر، جيش الشام، جيش الرحمن، جيش الزنكي، أنصار السنة، النصرة، هيئة تحرير الشام، وكثير كثير غيرها). هذه هي التي ستنمي بلادهم وتوفر لهم الحياة الحرة الكريمة، وتخرجهم من هذه الحياة الرتيبة. لقد زودناهم بكل العتاد والأموال. "مستعدون من أجل السوريين لاستخدام قاعدة إنجرليك التركية" قال الجبير، وفي الزحام العالي تبادلوا الاتهامات بدعم الإرهاب، وضاع الصوت، وضاعت سوريا.

في ليبيا اختلف المشهد قليلا، 25 % من الثوار حضرهم الناتو في أفغانستان. سندعم ثورة الشعب الليبي بما تحتاج من المال على ماله، ومن الرجال... ليلا طائرات مجهولة تقصف ليبيا، ثم ليست مجهولة بعد. نحن شركاء للناتو في ليبيا سننتقم من عمر المختار الذي صنع لنا مشكلة وخلق منا مهزلة.
الوكيل الصغير بعد أن أخذه الحرد سحب (عبد الحكيم بالحاج من أرض المعركة) فالمستور يكاد أن ينكشف. نحن تهنا في ليبيا، نحن فقدنا ليبيا.

لماذا الصراخ؟
لقد ورثكم أردوغان في سوريا وليبيا يا سادة... ورث إرهابييكم ومتطرفيكم، وتقريبا كل دعاتكم (العريفي والقرني عندهما العلم اليقين). لقد ورثكم العثماني الصغير إلى الحد الذي أصبح معه ينقلهم بين الأمصار من سوريا إلى ليبيا إلى الصومال، وربما إلى اليمن، من يعلم؟ ففيها ما يجب أن يرثه. أنه يفعل بالضبط كما تفعل الولايات المتحدة مع عناصر داعش في العراق وسوريا.

يحاول أردوغان التصرف مع الكل بندية، إما أن يحكم المتطرفون هذه الدول باسمي، أو أبعثهم يجولون في كل أوروبا، يقول أردوغان في قرارة نفسه، كذلك تتصرف إسرائيل، حتى أمها الرؤوم (أمريكا)، لا تتورع إسرائيل عن التجسس على أمها وسرقة أسرارها وأبحاثها وتقنياتها، تشاهدها أمها تفعل كل ذلك فتبتسم.
تشغل تركيا منطقة وسطية بين المصالح الغربية والأمريكية والصينية والروسية، لقد كانت شرطيا موثوقا ذات يوم، واليوم يمكن أن تلعب دور القرصان. لا مشكلة، ما دامت تتحقق مصالح معتبرة من وراء ذلك، وفلسطين مجرد ورقة لجلب المصالح سقطت فجأة من إحدى محافظ العرب.

العربان اليوم أمام ورطة حقيقية، ليس بأيديهم قرار أنفسهم، حتى المشكلات التي صنعوها تسربت كالماء من بين أيديهم. تكاد فلسطين أن تختفي، المشكلة الوحيدة أن فيها شعب حي يبقيها عصية على الجميع. اليوم ترامب يمنح الصهاينة أرض العرب، هو من يمنح وهو من يمنع، لا يملك العرب غير الإدانة المكتومة الخائفة. الضفة الغربية في خطر، لكن العرب قد اجتمعوا لأجلها على مستوى (القعدة)، وأدانوا، والله إنهم أدانوا، ثم ناموا، "كبُر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تعملون".

لقد أحرق الأعراب كل مراكبهم وكل أوراقهم دَفعة واحدة، اليوم لا يملكون غير ورقة المال، لكنها بئس الورقة. المال العربي لا يفيد العرب بشيء. لم ينصر قضية، ولم يحل معضلة، ولم ينم دولة، ولم يغن شعبا، ولم يشبع جائعا... حتى أن كل عمليات التجميل الطبية والسياسية تؤول إلى الفشل.
حيثما تول وجهك تجد المال العربي قد استحال دمارا وجوعا ومرضا. هذه هي حالة التعري الاستراتيجي في أوضح تجلياتها.

خاص بـ«الأيام»

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى