ضحكة شويكار.. عن واجب وطني من زمن الهزائم إلى زمن الانحطاط

> رنا نجار

> "الرقص واجب وطني"، تقول شويكار، الفنانة المصرية التي رحلت يوم الجمعة الماضي عن 85 عاماً، في مشهد لافت ومميز بأحد أهم الأفلام السينمائية المصرية "الكرنك" (1975) في حوارها مع محمد صبحي.

هذا الفيلم الذي اجتمعت فيه أقطاب الفن في مصر في تلك الحقبة، من المخرج علي بدرخان والموسيقار جمال سلامة ونور الشريف وكمال الشناوي وسعاد حسني وغيرهم من نجوم السينما، مأخوذاً عن قصة للكاتب المصري الحائز جائزة نوبل للآداب نجيب محفوظ سجل فيها اعتراضه على القمع السياسي في عهد الرئيس جمال عبد الناصر.

وفي فيلم "أمريكا شيكا بيكا" (1993) للمخرج خيري شلبي والكاتب مدحت العدل، ترقص شويكار من التعب، ترقص من الهم، وكأنها رقصة موت شباب يئس من القمع والذل والفقر، وقرر أن يهاجر الى أرض الأحلام، أرض العمّ سام.

ترقص شويكار "سيدتي الجميلة" (عنوان أشهر مسرحياتها) بجسدها الممتلئ ووجهها الحزين الذي يجيد كل خطّ فيه تجسيد حالة إنسانية معينة من قمة الفرح الى قمّة اليأس. ترقص في عرس لغرباء لا تعرفهم، مجموعة الشباب المصري التي علِقت في رومانيا بعدما وقعت ضحية رجل فاسد نصاب تقاضى أموالاً ليساعدها في الهجرة الى أميركا، وخذلها.

شريكة الراحل فؤاد المهندس في المسرح والسينما والحياة التي عاشت معه قصة حب حتى بعد انفصالهما، رقصت في الفيلم لترفّه عن نفسها وعمّن حولها، كما رقصت وغنّت ومثّلت لترفّه عنا نحن أجيال الهزائم العربية المتتالية منذ هزيمة 67 الكبرى.

ففي أغنية الفيلم الشهيرة التي رقصت شويكار الملقبة بـ "الليدي" على أنغامها، يقول محمد فؤاد مؤدي الأغنية وأحد أبطال الفيلم: "الدنيا يا خلق فانية بتروح منك في ثانية وإن شاء الله تروح رومانيا حتقولك طزّ فيك". لا تزال هذه الجملة ترنّ في أذني أنا ابنة الحرب الأهلية التي أعلم فعلاً معنى تلك الحياة التي "تروح في ثانية"، ويعلم جميع اللبنانيين ذلك، خصوصاً بعد تفجير مرفأ بيروت في أضخم تفجير غير نووي في العالم.

الجملة ترنّ في أذني كما ترنّ ضحكة شويكار في وجداني ووجدان كل متابعيها من العرب من أجيال مختلفة. فقد تربّت أجيال على فنّها وقدرتها الاستثنائية على الإضحاك الذي هو فعلاً اليوم "واجب وطني" لكل الذين شُرّدوا أو نزحوا من بيوتهم من العرب، لكل الذين مات أطفالهم من دون ذنب، لكل الذين يقبعون في السجون، لكل الذين فُقدوا ولم يعودوا.

شتّان ما بين الفيلمين في الطرح والمستوى الفني، لكنهما فيلمان سياسيان بامتياز، يعبّران عن مأساتنا المستمرة وأحلامنا المبتورة في بلدان تخوض حروباً من أجل لا شيء إلا تحقيق أحلام شخص أو اثنين مستعدين للتعاون مع الشياطين لأجل مصالحهم الخاصة. وقد يفجّرون مدينة بكامها كما حصل في 4 أغسطس في بيروت من أجل طموحات فاسدين. وقد يحرقون بلداً كاملاً كما حصل منذ عام 2011 في وسوريا وبعدها مصر ومن ثم العراق، لمجرّد أن رئيس البلاد متشبّث بكرسيّه.

وقد اختبر كثيرون في هذه المنطقة الملعونة ما يتناوله فيلم "الكرنك" من عذابات جراء الأنظمة السياسية البالية والاستبداد، فمعظم الشعب السوري اليوم إما نازح أو مهاجر أو مات بنيران الحروب الداخلية. وكذا نحن كلبنانيين وكثير من المصريين. كلنا نريد الهروب من الواقع وهجرة الأوطان التي ضاقت بنا وبطموحاتنا الصغيرة التي باتت فقط أن نعيش بسلام.

أحداث فيلم "الكرنك" تعبّر عن حالة الاستبداد السياسي والفكري والتعتيم الإعلامي الذي انتهجه نظام الحكم المصري في عهد عبد الناصر، ويكمل "أمريكا شيكا بيكا" برغم مرور زمن طويل بين الاثنين ليطلعنا على نتائج أنظمة ديكتاتورية على الأفراد أبناء الشعب الفقير الذي صار طموحه الهروب من كل شيء. والفيلم الثاني يُظهر كيف تدهورت حال السينما المصرية عامة وتباعاً، من ستينات القرن العشرين وسبعيناته وتسعيناته وحتى اليوم.

وهذا أيضاً إحدى نتائج الفساد والتضييق على الحريات وتعفّن الأنظمة. فشويكار الممثلة الشاملة التي يتمايل جسدها على أنغام موسيقية حرّكت خشبات المسرح المصري، وأشعلت تصفيق جمهوره منذ الستينات، بالكاد ترقص في "أمريكا شيكا بيكا" وكأن جسدها ذاك يعبّر عن حالتنا المتعبة جميعاً اليوم.
إذا جمعنا اليوم فيلمي "الكرنك" و "أمريكا شيكا بيكا" لمناسبة رحيل الفنانة الاستثنائية التي أضحكتنا في زمن الهزائم والحروب، ورفّهت عنا كواجب وطني في أعمال كوميدية حقيقية، نستشرف حالتنا ومعاناتنا اليومية وآمالنا التي تتبدّد ويأسنا.

لكن من سيُضحكنا اليوم، بعدما صارت الكوميديا تضحك علينا في الأفلام والمسلسلات والبرامج الفكاهية العربية التي في معظمها تلجأ الى الجنس والألفاظ النابية بدلاً من البحث عن طرح مبدع خلاق.
من سيضحكنا كما كانت تفعل الفنانة المتمرّدة على الأدوار النمطية وتجاوزت أفلامها الأربعين فيلماً، ومسرحياتها الخمسين؟ من سيُضحكنا كما فعلت الممثلة المثقفة التي تجمع في جمالها أصولها التركية والشركسية والمصرية في آن، تلك "الجاسوسة" في "العتبة جزاز" والراقصة أوسة في "إنها حقاً عائلة محترمة"؟

فهل تولد من رحم عذاباتنا وانهزاماتنا والقعر الذي نحن نعيش فيه اليوم، في معظم بلداننا العربية، مواهب قادرة على الإضحاك بعد؟ هل تولد الضحكة من جحر هذا البؤس؟

"بين عبد الوهاب وجمال عبد الناصر"
لم تكن شويكار ممثلة عابرة، فقد كُتبت لها مسرحيات حصرية لشخصها لما تحمل من خصائص الفنان الحقيقي من قلق وتوتر، ولما تبذل جهدا في تجسيد الشخصيات، سواء الكوميدية أو التراجيديا كما فعلت متفرّدة.

تلك "القرنفلة" التي امتلكت خفّة ظل ودلعاً وموهبة، استطاعت أن تسحب سجادة الكوميديا من تحت كرسيّ الرجال في الستينات، لتُلوّنها بلوحات نسوية نابضة بالفرح والحياة. الأمر الذي لم يكن معهوداً قبلها، فتحت الباب أمام نجمات كوميديا جديدات مثل هالة فاخر، ونبيلة السيد، وميمي جمال، وسناء يونس، وسعاد نصر، وأخيراً النجمة ياسمين عبد العزيز.

فليس سهلاً أن تتربّع على عرش الكوميديا لعشرات السنوات مع شريكها فؤاد المهندس وحتى من دونه عندما انفصلا. وليس صدفة أن يلحّن لها موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب أغنيات مسرحية "أنا وهو وسموذه" عام 1966 في أول ظهور له في المسرح الكوميدي، حيث شكّلت مشاركته هذه وهو في الكواليس يدندن على العود حدثاً فنياً فريداً.

وليس أمراً بديهياً أن يختار رئيس البلاد جمال عبد الناصر، مسرحية من بطولتها وفؤاد المهندس وعبد المنعم مدبولي بعنوان "الوصية"، لتُعرض في احتفالات أعياد الشرطة المصرية في منتصف الستينات، ويحضرها بنفسه. فالوصية كانت أول عمل مسرحي يقدم في الاحتفالات الرسمية المصرية بعد ثورة 23 تموز (يوليو) 1952، بعدما كانت الأخيرة تقتصر على الغناء، ويشارك فيها كبار المطربين والمطربات كالموسيقار محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة، وغيرهم. وجاءت مشاركة «الوصية» في هذه الاحتفالية كنوع من التكريم للمسرح الكوميدي آنذاك.

عايشت شويكار التي جمعت بين الغناء والتمثيل والرقص والاستعراض، مراحل سياسية وفنية مختلفة من تاريخ مصر، فقد بدأت مشوارها الفني عام 1960 مع فيلم "حبي الوحيد" حيث برعت بالوقوف أمام ممثلين كبار مثل عمر الشريف ونادية لطفي وكمال الشناوي، وختمت حياتها المهنية عام 2012 مع فيلم "سرّ علني". لكن سرّها كان بضحكتها التي ستبقى عالقة في أذهان كل من يشاهد أعمالها.

"النهار العربي"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى