خطة جريفثس المعدلة وآفاق الحل السياسي في اليمن

> "الأيام" مركز الإمارات للسياسات

> كثَّفَ المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن، مارتن جريفيثس، في الأسابيع القليلة الأخيرة مساعيه لإعادة إحياء مسار الحل السياسي في هذا البلد، واستئناف المحادثات المباشرة بين أطراف الصراع، والتي توقفت منذ جولة مشاورات السويد في أواخر 2018. وفي هذا الإطار، قام جريفيثس في الشهرين الأخيرين (يوليو وأغسطس 2020)، بتسليم طَرفي الصراع مُقترحين مُعدَّلين لخطة سلام وضعها فريقه في مارس الماضي، وسَبَق أن وَعَدَ جريفيثس حينها بالعمل عليها في ضوء الملاحظات التي تسلَّمها من الحكومة اليمنية الشرعية وجماعة "أنصار الله" الحوثية؛ وترتكز الخطة إجمالاً على ثلاثة أسس، تبدأ بوقف المواجهات العسكرية، والشروع في إجراءات اقتصادية وإنسانية، وتنتهي باستئناف المسار السياسي.

مضمون الخُطَّة المعدَّلة ومواقف الأطراف منها
تتضمن مسودة خطة السلام الأممية المعدلة والمعروفة باسم إعلان وقف شامل لإطلاق النار والإجراءات الإنسانية والاقتصادية، بحسب المعلومات المتوافرة، التوقيع على "إعلان مشترك" من قبل حكومة الرئيس هادي والحوثيين وجميع مَنْ ينتسب إلى هذين الطرفين، يَنُص على وقف إطلاق النار في جميع أرجاء البلاد، مـع وقـف كـامـل لجـميع الـعمليات الـعسكريـة الـهجومـية الـبريـة والـجويـة والبحـريـة، بـما في ذلك إعادة نشر القوات والأسلحة الثقيلة والمتوسطة والذخائر؛ وإطلاق سراح جميع الأسرى والمعتقلين والمفقودين والمحتجزين تعسُّفياً والمخفيين قَسْراً والموضوعين تحت الإقامة الجبرية والأشخاص المسلوبة حريتهم بسبب النزاع وفقاً لاتفاق ستوكهولم، وخاصة في ضوء تهديد انتشار جائحة "كوفيد- 19" في أماكن الاحتجاز.

كما تتضمَّن الخطة مقترحات بتشكيل لجنة لمراقبة وقف إطلاق النار، وفتح الطرق الرئيسة إلى المدن، لاسيما في تعز وصنعاء والحديدة ومأرب وصعدة والجوف، وصَرْف رواتب جميع موظفي الخدمة المدنية في كافة أرجاء البلاد وفقاً لقوائم رواتب عام 2014، والشروع في إصـلاح أنـبوب مـأرب- رأس عيسى لاستئناف ضــخ الــنفط، وضمان ســلامــة نــاقــلة الـنفط المتهالكة (صافر)، وإعادة تشغيل محطة كهرباء مارب الغازية، ورفـع القيود عـلى دخـول سـفن الـحاويـات والمشتقات النفطية إلى ميناء الحديدة، وإعادة تشغيل مطار صنعاء الدولي وفتحه أمام الرحلات الإنسانية والتجارية والمدنية، وتشكيل لجنتين مشتركتين تعمل أولاهما على تنسيق السياسة النقدية، وتتولى الثانية قضايا توحيد السياسة النقدية ودعم احتياطات النقد الأجنبي في الخارج، وفي ضوء ذلك يتم استئناف المـشاورات الـسياسـية.

وضمن مساعيه المستمرة لإقناع الأطراف المتصارعة بمضامين خطته هذه، زار جريفيثس عواصم الدول المجاورة لليمن، وتحديداً الرياض ومسقط، أكثر من مرة خلال الأسابيع القليلة الأخيرة، بهدف مقابلة مُمثلي الأطراف؛ حيث التقى في العاصمة السعودية بالرئيس هادي، ورئيس حكومته معين عبد الملك، إضافة إلى رئيس البرلمان سلطان البركاني وممثلين عن الأحزاب والمكونات السياسية اليمنية المؤيدة للشرعية، علاوة على عَقْدهِ مباحثاتٍ مع وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي عادل الجبير. وتوجَّه جريفيثس لاحقاً إلى مسقط، حيث التقى هناك بوزير الخارجية العُماني حينها يوسف بن علوي، الذي جَدَّد التأكيد على دعم بلاده المستمر لجهود الوساطة الأممية الرامية لإنهاء الصراع اليمني الذي طال أمده.

وكان من المفترض أن تتضمن جولة المبعوث الأممي هذه، لقاءَ رئيس وفد الحوثيين المفاوض محمد عبدالسلام، في مقر إقامته بمسقط، بالإضافة إلى زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، بالعاصمة اليمنية صنعاء، لاستكمال المشاورات بشأن خطته للسلام، إلا أن هؤلاء رفضوا مقابلة جريفيثس، وذلك للمرة الأولى منذ تعيينه مبعوثاً خاصاً لليمن في فبراير 2018، احتجاجاً على ما وصفوه بـ "تصعيد التحالف بقيادة السعودية ضرباته الجوية" ضد قوات الجماعة في صنعاء ومناطق متفرقة من البلاد "ومواصلة احتجاز سفن المشتقات النفطية، ومَنْع دخولها إلى ميناء الحديدة"، في مسعى واضح من الحوثيين لنيل بعض المكاسب المرحلية عبر ممارسة مزيد من الضغوط على الوسيط الأممي لتلبية مطالبهم، والتهديد برفض خطته المُعدَّلة للسلام إن لم يتم الاستجابة لتلك المطالب.  

ورغم صدور تصريحات عن مسؤولين في حكومة الرئيس هادي، في منتصف يوليو الماضي، تؤكد إبلاغها جريفيثس رسمياً رفضها لمقترحاته الأخيرة، لأنها "تنتقص من سيادتها وتتجاوز مهمته" حسب تعبير الناطق باسم الحكومة المعترف بها دولياً، إلا أن المبعوث الأممي سارع إلى زيارة الرياض مُجدَّداً بين يومي 10 و13 أغسطس الجاري، بهدف إقناع كُلٍّ من الحكومة الشرعية والقيادة السعودية بالموافقة على خطته للسلام، وإظهار انفتاحه على إمكانية إجراء أي تعديلات إضافية ضرورية ومعقولة للدفع بخطته تلك للأمام. وفي هذا السياق، أشارت مصادر دبلوماسية إلى أن جريفيثس قدَّم في زيارته الأخيرة للرياض خُطةً مُعدلةً للمرة الثالثة من مسودة الإعلان المشترك بين الحكومة والحوثيين، استوعبت بعض ملاحظات النسخ السابقة من المبادرة التي رفضتها الحكومة، بالإضافة إلى جُملة من التعديلات وفقاً لملاحظات قدَّمها الجانب الحوثي، على أمل أن تَقبَل بها حكومة الرئيس هادي هذه المرة.

تحديات الخطة وآفاق التسوية
أظهرَت المواقف المتأرجِحَة والمُلتبِسَة لطرفي الصراع في اليمن من خطة جريفيثس المُعدَّلة للسلام ومساعيه الأخيرة لبلورة "إعلان مشترك" يُفضي إلى وقفٍ فوري للقتال واستئناف المحادثات المباشرة بينهما، كَمّ التعقيدات الهائلة التي تحُول دون تحقيق اختراق سريع على صعيد إحياء مسار الحل السياسي للأزمة اليمنية ككل؛ فالثقة بين القوى المتصارعة ما تزال مُنعدِمة، وليس لديها إرادة ذاتية أو قوة دفْع ملموسة للمضي في مسار تجسير الهوة القائمة عبر الشروع في تدابير بناء الثقة وتعزيز المقاربة السِّلمية للنزاع (كالاتفاق مثلاً على حدٍّ أدنى من الإجراءات والتدابير الإنسانية والاقتصادية العاجلة والضرورية، من قبيل إطلاق الأسرى والمعتقلين وتحييد الاقتصاد والنظام المصرفي وتذليل العراقيل أمام منظمات الإغاثة وجهودها لتحسين الاستجابة الإنسانية في مختلف أرجاء البلاد...إلخ)، كما أن التكتيكات التفاوضية المعتمدة من قبل الأطراف ما فتئت تُربِك الوسيط الأممي وتُعرقِل مساعيه وتُعيدها بين الفينة والأخرى إلى "المربع الأول"، وتَصرِف الكثير من الجهد والوقت في مناقشة تفاصيل فرعية وظرفية ومُتغيرة، وذلك هروباً من مناقشة أصل المشكلة واستحقاقات الحل الدائم والنهائي للصراع.

ومع أن القوى الدولية الكبرى، وفي مقدمتها بريطانيا والاتحاد الأوروبي، واصلت إظهارها دعمها القوي لجهود الوساطة الأممية في اليمن سواء في إطار مجلس الأمن أو عبر الحراك الدبلوماسي المباشر المُسانِد لتحركات مارتن جريفيثس وفريقه في العواصم الإقليمية المؤثرة، إلا أن انشغالها في هذه المرحلة بمواجهة تداعيات أزمة وباء "كورونا" المستجد أضعفَ كثيراً قدرتها على ممارسة الضغوط على أطراف الصراع اليمني ودفعهم للانخراط بحُسْن نية في جهود التسوية التي ترعاها الأمم المتحدة.

ومن دونِ مُواصلة مُمارسة الضغط من القوى الدولية المؤثرة على أطراف الصراع، فإن فُرصَ نجاح مساعي التسوية في اليمن ستظل -على الأرجح- ضئيلة للغاية، وستكون تحدياتها ومُعيقاتها أكبر من قدرة الوساطة الأممية على تجاوزها؛ وما يَحتاجَهُ وسيطٌ كمارتن جريفيثس اليوم، وبشدة، هو دعم مُقاربته الراهنة لإنهاء النزاع والدفع بها قُدُماً، رغم ما يكتنفها من عيوب ونقاط ضعف، وما تتعرَّض له من انتقادات واتهامات (كما هو حال جميع الوسطاء الدوليين في قضايا النزاعات)؛ ومن المهم أن يَنبني هذا الدعم لمقاربة جريفيثس على فَهمٍ أفضل وأكثر واقعية لديناميات الصراع وتحولاته في اليمن ولمصالح القوى المحلية والإقليمية المنخرطة فيه، وبَذْل مزيدٍ من المساعي لفصل الملف اليمني عن بقية الملفات الإقليمية الساخنة، وعلى نحوٍ يَحُدُّ من قدرة بعض القوى الإقليمية الانتهازية التي لها مصلحة مؤكدة في استمرار الاقتتال في اليمن، وخصوصاً النظام الإيراني، على مواصلة استثمار هذا الملف وتوظيفه في بازار المقايضات الإقليمي، بصورةٍ تُعزِّز من مصالحهِ ونفوذهِ حصراً وتَزيد من هامش مناورته إقليمياً ودولياً، وهو ما لا يَتحقَّق له إلا ببقاء ملف الصراع اليمني مفتوحاً، وتَعثُّر كل مساعي تسويته سلمياً لأطول أجلٍ مُمكِن.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى