عامر الكيلة .. المطرود الذي صنع منه جاسم مندي بطلا قوميا..!

> محمد العولقي

> * في ذات رواية للكاتب البرازيلي (باولو كويليو) قال : "إن قليلا من الناس فقط هم من يعرفون متى يجب أن يتوقفوا "، ربما كان اللاعب الدولي ونجم نادي حسان السابق (عامر الكيلة) هو أول لاعب جنوبي توقف عن اللعب في وقت كان يطالبه الجمهور بالمزيد ..
والذين عاصروا (عامر الكيلة) في ملاعب الكرة لم يفهموا وقتها سر توقفه عن اللعب، ولم يقتنعوا بأن المدافع المثابر الذي يحمل شوكته فوق ظهره كالعقرب تماما توقف عن الركض في أوج قوته و عطائه.

* (عامر) فقط كان يصغي لهدير وادي حسان، وهو يهمس للسنابل وأشجار الموز والمانجو : تجددوا يرحمكم الله .. ويا سبحان الله .. (فعامر الكيلة) اللاعب الذي يراه البعض عصبيا و حماسيا إلى الدرجة القصوى للون الأحمر، يبدو تلقائيا خارج الملعب هادئا مستكينا إلى درجة الخجل، لقد تعلم (عامر) من وادي حسان كيف يثور داخل الملعب، وكيف يتحول إلى تسونامي أمام المهاجمين، وكيف يجدد نفسه من دون أن يدخل في جدل عقيم مع حكام مباريات كرة القدم.

* وسجل (عامر الكيلة) مع الحكام يكاد يكون خاليا من التجاوزات، إلا أن لهذا الفارس الأبيني الأسمر حكاية طريفة ربما طغت على مشواره بعد ذلك، فما إن يأتي الحديث عن (عامر) إلا وتقفز تلك الحادثة إلى الأذهان .. على مقربة من نادي حسان يتجمع الصبية حول (عامر الكيلة) يتهامسون ثم يهتف أحدهم قائلا : إنه هو اللاعب الذي ضرب طاولة المعلق السعودي (محمد البكر) بعد حادثة طرده الشهيرة في تصفيات كأس آسيا للناشئين عام 1988.

* يشرد (عامر الكيلة) ببصره بعيدا مفتشا في تلافيف ذاكرته عن تلك اللقطة الدرامية، ففي مباراة حاسمة بين منتخبنا الوطني والمنتخب السعودي لتحديد المتأهل إلى النهائيات، وفي ملعب كويتي كان أشبه بحلبة ملاكمة، تحيط بأسواره جماهير جنوبية متعطشة للنصر الكروي المبين، تقدم منتخبنا الوطني في الشوط الثاني بهدفين صاعقين للهداف الشهير (عمر البارك)، وهو وضع محرج لم يعجب الحكم البحريني (جاسم مندي)، ولا المعلق السعودي (محمد البكر) الذي كان عصبيا وهو يهتف بهستيريا : (عمر مبارك) نشف ريقي.
الحكم البحريني جاسم مندي
الحكم البحريني جاسم مندي

* كان الحكم (جاسم مندي) قد تحول إلى اللاعب السعودي رقم 12، فشن وابلا من القرارات التعسفية بحق لاعبي منتخبنا، وحتى ما قبل نهاية المباراة بعشر دقائق، لم يجد السعوديون بقيادة السريع جدا جبرتي الشمراني والقائد سعود الحمالي والفنان المونديالي فؤاد أنور منفذا يؤدي إلى مرمى حارسنا وليد عبد الإله ووقتها كان (عامر الكيلة) مثل مكنسة كهربائية ينظف منطقة الجزاء من محاولات الغزو السعودي بكل فدائية وثقة في النفس .. وفجأة ودون مقدمات، يحتسب الحكم (جاسم مندي) ركلة جزاء خيالية لصالح المنتخب السعودي، وكان الخطأ الذي ارتكبه (خالد عفارة) بحق المهاجم (وليد الطرير) بعيدا عن منطقة الجزاء بثلاثة أمتار على الأقل، ولم تكن هناك ركلة جزاء ، إلا في مخيلة الحكم الذي قرر إسقاط الامتياز (الجنوبي) بكل السبل غير المشروعة، في ظل عجز السعوديين عن اختراق الحقل الكهرومغناطيسي الذي يقوده من العمق صالح بن ربيعة وعامر الكيلة، ومن الرواقين المتألقين خالد عفارة وهاني عبدالكريم، في وقت كان الدينامو عبد الله هادي ينبش في الوسط ويوزع شهده على المهاجمين محمد خميس ومنيف شائف وبالطبع العبقري النحيل عمر البارك، بالإضافة إلى ديناميكية الفاكهة (صالح الحاج) وحيوية عبد الكريم الشرجبي.

* ووسط عاصفة احتجاجية (جنوبية) حمراء على قرار الحكم تلقى (عامر الكيلة) إنذارا على خلفية ردة فعله، وكان هذا القرار مؤشرا لاستهداف (عامر) و إخراجه عن أجواء المباراة بشتى الوسائل، ومن بعيد برز القائد (سعود الحمالي) وهو يضع ركلة الجزاء على يمين وليد عبد الإله، ركلة قال عنها وليد : "خمنت الزاوية الصحيحة، ولو كان للكرة ذيل لأمسكت بها ولتجنبنا بئس المصير".

* تكهربت أجواء المباراة في ملعب نادي القادسية، وأصبحت مسألة التحكم بردود أفعال الجماهير الجنوبية الغفيرة صعبة للغاية، وهو أمر دفع مراقب المباراة إلى طلب المزيد من الأمن وتطويق مدرجات جماهيرنا بسياج رقابي فولاذي .. وواصل الحكم (جاسم مندي) تربصه بلاعبينا منقبا عن أي خطأ أو غضب قد يرتسم على وجوه كان بينها وبين نهائيات آسيا ونهائيات كأس العالم مجرد خمس دقائق لا غير ..

بدأ الحكم (جاسم مندي) وكأنه قد وضع على (عامر الكيلة) علامة حمراء، فقد كان يترصده ويحصي عليه أنفاسه ويضمر له الويل والثبور وعظائم الأمور، إلى أن جاءت اللحظة الدراماتيكية التي غيرت وجه اللقاء تماما، حاول (عامر الكيلة) استخلاص الكرة من اللاعب (ماجد الهملان) بعفوية، لكن هذا الأخير سقط في كرة مشتركة، وهنا ضحك الحكم (جاسم مندي) حتى بانت أضراس العقل وأنياب الجنون ، ومن دون أن يتبادل ولا كلمة واحدة مع (عامر) أشهر الكارت الأحمر في وجهه، في وقت عصيب للغاية، وهنا اختلط الحابل بالنابل ، لاعبونا يحيطون بالحكم يطالبون بالعدل و(عامر الكيلة) من هناك في حالة هياج رافضا الخروج من الملعب، وبين شد وجذب تدخل الجهازان الفني والإداري وأقنعا (عامر) بمغادرة الملعب وشياطين الغضب تتقافز من وجهه الأسمر، وبينما كان في طريقه إلى الخارج فوجئ بطاولة المعلق السعودي (محمد البكر) أمامه مباشرة، ولم يتردد (عامر) في ضرب الطاولة بقبضة يده، في عمل انفعالي لم يتوقعه (محمد البكر) الذي قفز مرعوبا وهو يقول لعامر : مو أنا الحكم يا كابتن.

* وظل (عامر الكيلة) يراقب الدقائق الأخيرة بقلق شديد، شيء ما كان ينبئه بأن أمرا جللا، سيحدث في الدقيقة الأخيرة الملعونة، وكم كان إحساسه في محله، ففي الدقيقة الأخيرة أرسل الجناح السعودي الأيسر كرة عالية عادية نحو حارس مرمى منتخبنا وليد عبد الإله، وبينما كان هذا الأخير يتأهب للإمساك بالكرة وقتل الثواني الأخيرة حتى بوغت بدفعة قوية مزدوجة من (ماجد الهملان) و(جبرتي الشمراني)، فسقطت منه الكرة ثم وضعها (الهملان) في المرمى، ولم يبال الحكم بدموع لاعبينا ولا بهتافات جماهيرنا الغاضبة، لقد تعرض لاعبونا لسرقة علنية واضحة غيرت مجرى التاريخ، فهذا التعادل منح المنتخب السعودي بطاقة التأهل مع العراق إلى نهائيات كأس آسيا، وكم ستكون دهشة لاعبينا عظيمة عندما سيصلهم بعد عام فقط - أي عام 1989 - نبأ فوز المنتخب السعودي ببطولة كأس العالم للناشئين في اسكتلندا، وأمست هذه الحادثة المختصر المفيد لمشوار (عامر الكيلة) في ملاعبنا، لكنها لا تعبر عن أخلاق وصفات هذا الإنسان الذي يبدو وديعا وهادئا بعيدا عن كل لغات العنف .. وجاء (عامر الكيلة) إلى نادي حسان مع نهاية حقبة الثمانينات، في وقت كان فارس أبين يمر بمرحلة انتقالية، بعد رحيل نخبة الراقصين على إيقاع (الدحيف) الأبينية، وجاهد هو الآخر لأن يبقى حسان رقما صعبا في معادلة الدوري الجنوبي قبل وبعد الوحدة.

* مؤخرا التقيت (عامر الكيلة) الذي أسالت لقطته مع المعلق السعودي حبرا لم يجف بعد رغم مرور 32 عاما على تلك الحادثة الطريفة، وعلق عامر على تلك الحادثة الدراماتيكية قائلا : "الظلم يجعلك تفقد أعصابك وصوابك، والحكم البحريني (جاسم مندي) كان جائرا في حقنا واستكثر علينا الفوز على المنتخب السعودي، ولم أكن أتوقع للحظة طردي بهذه الطريقة المتعمدة، فكان أن ثُرت، ولم أستطع التحكم بأعصابي بعد أن بلغ إفراز مادة الأدرينالين حدا يصعب معه وضع أعصابي في ثلاجة".
المعلق السعودي محمد البكر
المعلق السعودي محمد البكر

* وضحك (عامر الكيلة) من قلبه معلقا على ما سببه من هلع للمعلق السعودي (محمد البكر) قائلا : "لم تكن اللحظة من تخطيطي، كنتُ في طريقي إلى المدرجات والتشنج بلغ مداه، ومن دون شعور فوجئت بالمعلق السعودي أمامي وقد بدأ عليه الارتياح لقرار طردي، مررت إلى جواره ثم ضربت الطاولة بقبضتي تعبيرا عن غضبي وعدم رضاي على قرار الحكم الجائر ولم تلتقط أذناي ردة فعل (محمد البكر) إذ كل الذي أتذكره ولا يبارح ذاكرتي أن (محمد البكر) قفز من مقعده وكأن عقربا لدغه.

* بعد مرور كل هذه السنين على تلك الحادثة الدراماتيكية يطلق (عامر الكيلة) تنهيدة من أعمق أعماقه وهو يقول : "أتمنى أن تكون تلك الحادثة الطريفة قد سقطت من ذاكرة المعلق السعودي (محمد البكر) وإن كان لازال يستعيدها كواحدة من مفارقات مشواره مع الميكروفون فأقدم له الاعتذار، لأنه في النهاية لم يكن سببا فيما حدث لمنتخبنا في الكويت، وكان (عامر الكيلة) أول وآخر لاعب - ربما على مستوى العالم - يكسر قاعدة اللاعب المطرود الذي يغادر الملعب تشيعه اللعنات، فقد نال تعاطفا من الجماهير في الداخل والخارج ، بنت له شعبية جارفة لأن الكارت الأحمر الظالم للحكم الدولي البحريني (جاسم مندي) صنع من (عامر الكيلة) بطلا قوميا، في وطن كان يعشق كرة القدم بجنون، يفوق جنون حب روميو لجولييت.

* وبعد كل هذه السنين أتمنى على الحكم الدولي (جاسم مندي) والذي أصبح عضوا في لجنة التحكيم الدولي منذ ثماني سنوات ، وهو الذي يستعد لاستقبال عيد ميلاده السادس والسبعين بعد أيام قليلة أن يقر بذنبه ويعترف بخطأه ويطلب العفو والسماح من رفاق قائد المنتخب البارع الماهر (صالح الحاج) لأن الرجل المتقاعد يقترب من النهاية (الأعمار بيد الله وحده) ففي يوم تُقرأ فيه الصحف تسود وجوه وتبيض أخرى أمام الواحد القهار لن ينفع الندم وسينال كل ذي حق حقه، لقد كان منتخبنا الوطني للناشئين قاب قوسين أو أدنى، من بلوغ نهائيات كأس آسيا والعالم في اسكتلندا، لكن صفارة الحكم الدولي (جاسم مندي) منحت نقطة التعادل السوداء للمنتخب السعودي من دون وجه حق، وتلك النقطة قلبت الموازين رأسا على عقب، لأن السعوديين بعد ذلك اكتسحوا آسيا، ثم تُوجوا أبطالا للعالم في اسكتلندا عام 1989، وفي ذلك بعض العزاء لمنتخب يمني جنوبي رائع تمت زحلقته في الكويت، فتغيرت بوصلة التاريخ المونديالي إلى الجهة التي لم يتوقعها (جاسم مندي) نفسه ..!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى