"بلجيك".. ذلك الصوت القادم من أعماق الفن

> د. عبده يحيى الدباني

> أولاً: صاحب النص:
هو الشاعر صالح عبدالرحمن المفلحي من مواليد المكلا 1933م، ومن وفيات 2005م شاعر شعبي غنائي، وفنان ملحن، عده النقاد في حضرموت ثاني شخصية شعرية غنائية بعد الشاعر الكبير حسين أبوبكر المحضار، وقد أفاد المفلحي من المحضار شاعراً وملحناً إلى جانب تأثره العميق بالفنان العريق محمد جمعة خان رحمهم الله جميعاً.

أما اسم المفلحي في نسبه فيبين أنه من يافع حضرموت، وله بعض القصائد التي تبدأ بـ (اليافعي قال) لكنه كان ابن بيئته المكلاوية شعراً وشعوراً ولغة وفناً وألحاناً وذوقاً على ما بين الألوان الغنائية الجنوبية من تداخل وتناص لا يخطؤه الذوق ولا ينكره التاريخ.

للشاعر المفلحي ديوان شعر نشره في الكويت عام 1970م تحت عنوان (خواطر في أنغام) لقد جعل من قصائده خواطر منغمة، وقد أشار بعض النقاد إلى أن المفلحي قد أبدع ملحناً أكثر مما برع وأبدع شاعراً، لكن يبقى هذا حكماً نسبياً، وكان قد كتب مقدمة ضافية لذلك الديوان الأستاذ المؤرخ والناقد محمد عبدالقادر بامطرف رحمه الله. ارتبطت تجربة الشاعر المفلحي بالعشق العفيف الذي استحوذ على معظم شعره، وقد أشار د. الناقد عبدالله البار عافاه الله إلى أن المفلحي كان العاشق الشاعر، بينما كان المحضار الشاعر العاشق مع أن هذا الحكم لا يقلل من شأن المفلحي شاعراً ولا من شأن المحضار عاشقاً.

ثانياً: المفلحي دفء الكلمات وعطر الألحان
في هذا العام 2020م صدر كتاب يحمل عنوان (المفلحي دفء الكلمات وعطر الألحان) بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لرحيله حرره زميلنا د. عبدالعزيز الصيغ رئيس قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة حضرموت، ورئيس الدائرة الثقافية في مؤتمر حضرموت الجامع، وهي الجهة التي نشرت هذا الكتاب. وقد أهداني مشكوراً نسخة من هذا الكتاب الفريد، وزودني بنسخ هدية لكل من الدائرة الثقافية في الأمانة العامة للمجلس الانتقالي الجنوبي ولمكتبة اتحاد أدباء وكتاب الجنوب. حمل الكتاب بين دفتيه دراسات ومقالات تقطر وفاء واعتزازاً وتفيض علماً ونقداً لكوكبة من كتاب حضرموت ونقادها وأكاديمييها ومثقفيها، أذكر منهم د. عبدالعزيز الصيغ، ود. عبدالله حسين البار، والأستاذ صالح باعامر، ود. عبدالقادر باعيسى، ود. ماهر سعيد بن دهري، والأستاذ صالح الفردي، ود. أحمد باحارثة، ود. أحمد بن عبيدون، ود. أبوبكر الحامد وغيرها من الأسماء اللامعة في حضرموت والجنوب بوجه عام، صبت هذه الدراسات والمقالات في خور مكلا شاعرنا المفلحي شاعراً وملحناً وإنساناً وأضاءت حياته وشعره من زوايا مختلفة.

ثالثا النص:
بلجيك ما تصلح إلا على كتف السعيدي

كيف ذلوك يا عز السلوبة؟

وين لي يحسنون الضرب على المحلاه؟

لي ضيع البهم ظن الطعم لي في الواد ريدي

ظن وادي حمم كله خصوبة

ما حسب للملامة قال يا لوماه

يالحيد لي كنت نضرب بك مثل ونقول حيدي

حسف ذيك النوب كم فيك نوبة

ليت حتى كلابك بالعوا ترعاه

ليتهم عالطفف ضربوك يا حصن الغويزي

حافظوا عالعسل جبحه ونوبه

غير خلوك كل قصبة على معداه

يا بو عمر أيش من ربان لي زل المجاري؟

حاسب البحر يا مسهل دروبه

خس ربان لي هو ما عرف مجراه

رابعاً: التعليق
قصيدة بلجيك الغنائية واحدة من روائع الغناء الحضرمي بوجه خاص والغناء الجنوبي بوجه عام.

لقد حفظها الجمهور الحضرمي عن ظهر قلب، ووقف أمامها النقاد تحليلاً وتأويلاً وتذوقاً، لقد انطوت على قصة موجعة وصارت رمزاً وأصبحت مثلاً يضرب، ولا تزال تضخ الدلالات عبر الأيام ومستجدات الحياة بما تميزت به من مرونة وإيحاء ورمزية وعمق وفضاء مفتوح على التأويل. لقد تردد صداها في الكتاب الذي ذكرناه آنفاً بما يوحي أنها من أجمل قصائد الشاعر المفلحي المغناة لاسيما أن المفلحي شاعر مال إلى الوضوح والبساطة والرقة والمباشرة في قصائده الغنائية فمثلت بلجيك انزياحاً مدهشاً في لوحته الغنائية الواسعة.

بلجيك هو سلاح صنع في بلجيكا، وهكذا كانت الأسلحة تسمى بأسماء الدول التي صنعت فيها مثل الكندة والفرنصاوي والشيكي وغيرها، لكن بلجيك كان نوعاً عريقاً من السلاح يتمنطق به الرجال الفرسان، وصارت له رمزية وقيمة اجتماعية قبل أن تنتقل الكلمة إلى السياق الشعري فتزداد توهجاً وإشعاعاً. لقد وظف الشاعر في هذه الأغنية العبقرية عدداً من الرموز الحضارية والاجتماعية والثقافية، وزج بها في تجربته الإنسانية الخاصة التي طالما تكررت ولا تزال، لهذا تحولت الأغنية إلى استعارة كبيرة غير ثابتة الدلالة والتأويل. لقد فهمت الأغنية فيما فهمت على أنها سياسية تدل على مرحلة من تاريخ الجنوب العاصف بالتحولات وهي تصلح لأن تكون كذلك سواء في تلك المرحلة أو في مرحلة أخرى، فلا تزداد هذه الأغنية عبر المراحل إلا دلالات جديدة، وكذلك هو الفن الأصيل.

زميلي وصديقي د. عبدالقادر باعيسى قسم هذه القصيدة الأغنية إلى خمسة حقول: حقل بدوي، وحقل ريفي، وحقل بدوي ريفي، وحقل بحري. وهذه هي حقول الجنوب الوطن، قصد الشاعر أم لم يقصد وقصد الناقد أم لم يقصد وكأني بهذه القصيدة تصلح أن تكون النشيد الفني العميق للجنوب الحبيب في هذه المرحلة!
لقد شرق التأويل وغرب في مقاربة هذه اللوحة الغنائية، فجئنا نحن فذهبنا بها جنوباً وما علينا من بأس.

لقد ذكر زميلي وأخي صالح الفردي أنه في لقاء مع الشاعر عرض عليه تأويله الخاص لبلجيك فوافقه الشاعر، لقد كان الشاعر أحياناً عنيفاً في هجومه على من يحب في أغانيه بطريقة مباشرة، هذا العنف والتعنيف كان بفعل غيرة المحب وحرمانه وكبته وتقلب سلوك المحبوب وقد قيل (إن المحب على وجل) أي أنه دائم القلق وسوء الظنون. والحب ليس برداً وسلاماً دائماً وليس الغزل كلاماً رقيقاً دائماً، فالتجارب مختلفة من شاعر عاشق إلى آخر ومن واقع إلى آخر، لقد تمنى كثير من المحبين في شعرهم هلاك محبوباتهم بعد أن انعدمت حيلتهم في الوصال أو السلو من المحبوب ونسيانه، وكتاب مصارع العشاق لابن السراج يفيض بتجارب العشق التي تجهمت وتأزمت وتحول أصحابها إلى قاتلين أو مقتولين.

وهكذا تحول شاعرنا كما رأى الفردي من اللغة المباشرة في مخاطبة المحبوب وعتابه وتعنيفه إلى لغة رمزية موحية حمالة أوجه خلدت تلك التجربة. لقد كان الشاعر عاشقاً صادقاً وأصيلاً ومن ذلك الجيل الذهبي، ولا يقبل ممن يحب غير الوفاء والصدق ولا يرضى لمحبوبه بالهوان. لقد أخلص المفلحي في عمره وشعره لمحبوبة واحدة، فلم يكن زمنه زمن تعدد المحبوبات وتعدد الولاءات، لكن هذه التجربة القصة على النحو الشعري الذي تمخضت عنه في قصيده بلجيك صارت تجربة حياة ووطن وأرض وأخلاق وقيم ومبادئ، وجسدت الصراع الأبدي أدبياً بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وبين المواقف الصلبة الثابتة والمواقف المرتعشة، وبين الوفاء والخذلان، وبين من يستحق بلجيك الواقع والرمز ومن لا يستحقه، وبين من يريد وطنا ومن يريد أن يملأ بطنا إلى غير ذلك من الثنائيات الضدية التي تنطوي عليها الحياة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى