في ذكرى وفاة الفنان محمد صالح حمدون.. العندليب حاضرا رغم الفراق

>
الخمسينيات المبهرة
في خمسينيات القرن الماضي تفاعلت الدورة الغنائية الثانية ومدت ظلالها النغمية واللحنية في فضاءات لحج وعدن، وانبرى عباقرة أفذاذ يتقدمهم الأسطورة فضل محمد اللحجي والأستاذ الكبير عبدالله هادي سبيت وآخرون، ليضعوا شفرة جينية تمتاز بمقدرة الخروج المغاير والحسن من عباءة القمندان دون مفارقة، وبلبوس لحنية مضافة في الدان اللحجي بنمطية التجديد المواكب للعصر.

العصر الذي كان مبهراً في غير مجال من مجالات الحياة في هذه الأرض الطيبة. والثابت أن لا فناً راقياً كالغناء اللحجي مذ القمندان وما بعده يُضاف كقيمة ثقافية وحضارية مجرداً و بمعزل عن إحداثيات حقيقية في المجتمع في الاقتصاد تحديداً، مؤثرة في العيش الإنساني بما توفره من استقرار نفسي واحدة من تجلياته الفن كمكتسب إبداعي من صناعة تفاعلية سببية طرفاها الاقتصاد والإبداع عبر برزخ من الاستقرار النفسي والاجتماعي.

 ولذلك، قلنا: إن (لحجَ) هبة وادي تبن، ومن الزراعة كان الاستقرار للساكن على ضفتي الوادي الصغير والكبير حتى ملامسة السيول لأقدام عدن عند الدلتا في العماد والحسوة.
وغير الزراعة استفادت لحج من التجارة العابرة إلى عدن المستعمرة أو الخارجة منها إلى البر اليمني. ناهيك عما تقدمه لحج من مدخلات زراعة الخضروات والفواكه إلى عدن، مع ما أحدثته زراعة القطن في فترة حديثنا من طفرة نوعية في الحياة العامة.

ومتطلب آخر يجب أن لا نغفله أبداً وهو نوعية الحكم، حيث توفر لـ (لحج) حكم مدني مقنن بتشريعات وسلطة قضائية مستقلة، تعطي مبدأ التساوي الحقوقي للمواطنين، وإن في الحدود المدنية المتاحة.
والأهم أن السلطان كان هو بنفسه راع للفنون والتعليم، بل كان فناناً بامتياز، فالسلطان فضل بن علي محسن العبدلي (والد القمندان) يذهب إلى حلقة الدرس في الجامع الكبير بنفسه لينضم إلى زملائه كواحد منهم. أما ابنه محسن فهو صاحب المدرسة المحسنية التي أوقف عليها مبكراً كل أملاكه قبل أن يموت شاباً بعد استعادة لحج من الأتراك. وأخوه أحمد فضل القمندان فهو صاحب الامتياز الأكبر في بعث النهضة الموسيقية والغنائية اللحجية والخبير الزراعي والأديب والباحث المؤرخ الذي ترك لنا (هديته) في أخبار لحج وعدن المؤلف الذي لا يستغنى عنه أبداً.

ومن أفراد الأسرة العبدلية قل أن لا تجد أديباً أو فناناً أو موسيقياً بين أفرادها، فمن أسرة واحدة قد يجتمع خمسة أو ستة عازفين من أفرادها -كما أخبرني بذلك عن أسرته الأمير العبدلي عبده عبدالكريم عبدالله محسن- أما الأمير عبده فصاحب الديوان الغنائي الشهير (طاب يا زين السمر) وصاحب الألحان الرائعة دون أن نغفل أباه الذي يدخل في الباب نفسه.

وماذا يمكننا القول عن السلطان الثائر علي عبدالكريم الذي لم ينصفه التاريخ بعد. رائد فكرة اتحاد الجنوب العربي دون منازع منذ العام 1949م الفكرة النقيضة لفكرة الاستعمار البريطاني باتحاد محميات الجنوب العربي يكون السيد فيها المندوب السامي في عدن.
وتتجلى مكانة السلطان علي كاديب وفنان وسياسي مخضرم في نهضة لحج أثناء حكمه في الخمسينيات المبهرة ذلك الحكم الذي وضع حداً له الإنجليز في العام 1958م من خلال مجايليه في السياسة والأدب والفن مثل السيد محمد علي الجفري والسيد الصافي وصالح فقيه وعبدالله هادي سبيت ولقمان الأب وابنه علي وعبده عبدالكريم ومحمد فضل اللحجي وآخرين.
 كما لا يفوتنا أن نشير إلى الأمراء المبدعين شعراً و ألحاناً وعزفا محسن بن أحمد مهدي وصالح مهدي بن علي ومحسن صالح مهدي.

حاضرة الوهط
كانت الحوطة بكل مقومات المديني الحضري ووجود رأس السلطنة فيها تقف على مسافة واحدة من الوهط، حيث يكتمل نصاب الحكم العبدلي بتتويج السلطان داخل قبة ولي الله الصالح السيد عبدالله بن علي بالوهط وجعل القضاء والاستشارية من رجالها المشهودين، وتشترك الحاضرة الثانية (الوهط) في قوام مجلس اختيار السلطان ضمن أهل الحل والعقد وعلى أساس لا يحيد من داخل البيوت العبدلية.

وكانت المدرسة الجعفرية -مدرسة الوهط فيما بعد امتداداً لخط التعليم القائم بالسلطنة.
وفي الخمسينيات كانت مدرسة الوهط على عهد مديرها الأستاذ المناضل ابن مصر العروبة عزت مصطفى منصور يزرع بذور العمل الوطني داخل أسوار المدرسة بين تلاميذه وخارج الأسوار، دون أن نظن ظن السوء أن ذلك العمل سوف يصطدم بممناعة السلطنة، بل يندرج ذلك ضمن تقاطع السياسات بين السلطان الثائر علي عبدالكريم وحاكم عدن البريطاني.  وتنتهي تراجيديا المواجهة باحتلال لحج عسكرياً بحجة البحث عن الأستاذ محمد علي الجفري واعتقال بعض أقاربه وخروج السلطان من لحج عام 1958م وهروب الأستاذ عزت إلى تعز فالقاهرة.

كان محمد صالح حمدون المولود في الوهط أواخر العقد الرابع من القرن الماضي يذهب مع أقرانه في مدرسة الوهط في رحلة ترفيهية إلى بساتين الحسيني، وكان مغرماً بالأناشيد الأغاني المصرية لتقتنصه الصدفة الطيبة حين سمعه الأستاذ عبدالله هادي سبيت الذي تربطه صداقة حميمية بالأستاذ عزت مصطفى منصور، وسرعان ما اختبر سبيت صوت الفتى اليافع النحيل وأعجب بصوته ثم قدم إليه مقطوعة شعرية كانت معه وشرع يلقنه كلماتها واللحن، ترنم الفتى ذو العشر سنوات أو تزيد سنة بالأغنية التي كانت سبباً في شهرته الطاغية، وتجاوزت شهرتها ديار لحج وعدن والجوار اليمني لتصل إلى أقصى المغرب.

كانت كلمات أغنية (سألت العين) من عنديات الأمير محسن صالح وهي من السهل الممتنع، وقد أصلح فيها سبيت ما ينبغي أن يلائم اللحن وفي القرارة الساكنة نعلم أنها شعر عبدلي أنثوي تفرض التقاليد أن يتوارى خلف الأمير محسن.
وقد كتبت قبل ست سنوات في (الأيام) الغراء ما نصه أن (سألت العين): لا تصنف رغم لحوجيتها إلا بأنها أغنية عربية تتلقفها الأجواء الحلبية وتعزفها الأوكسترا الملكية المغربية والسلطانية العمانية بعد أن كانت قد غنتها الفنانة البحرينية موزة، ومن أبياتها:
سألت العين حبيبي فين
أجاب الدمع راح منك
حبيبك ما سأل عنك
وخلا القلب في نارين
وطول ليلي اشكي للنجمة
حبيبي كم كثر ظلمه
بحبه ذقت انا المرين
احتفت الصحافة العدنية بالبزوغ المثير لابن الوهط محمد صالح حمدون برخامة الصوت غير المعهود واللحن البديع والكلام الذي ينز عاطفة وسجلت الأغنية في الإذاعة العدنية وكانت جواز مرور لحمدون إلى عالم الشهرة والطرب والفن، وغرد العندليب على مسارح الحوطة وعدن ودار سعد، وشارك في حفلات دعم ثورة الجزائر وبورسعيد بعد العدوان الثلاثي البغيض على مصر.

 يقول الأستاذ علي مهدي محلتي: (وقعت أحداث في خمسينيات القرن العشرين خاصة أثناء زخم الخطاب السياسي للرئيس جمال عبدالناصر وما لحقه من العدوان الثلاثي على بورسعيد في 29 أكتوبر 1956م، ومن هنا ثارت الكلمة للشعراء تضامناً مع الشعب العربي في مصر وكانت المبادرة الأولى من قبل الأستاذ المربي والشاعر عبدالله هادي سبيت بالكلمة واللحن في إحياء حفلات التبرع على مسارح عدن ولحج وجمع مردود تلك الحفلات لصالح الدفاع عن بورسعيد، فالأستاذ سبيت هو صديق حميم للأستاذ الوهطي الإسكندراني عزت مصطفى منصور مدير مدرسة الوهط الإعدادية حينها الذي لبى نداء الواجب في مغادرته سلطنة لحج إلى مصر).

وشارك الحمدون الصغير في تلك الاحتفالات الداعمة لمصر عبدالناصر أو لثورة الجزائر الجبارة مع أقرانه الفنانين الصغار أمثال عبدالكريم توفيق وحسن عطا ومحمد عوض شاكر.. إلخ. الذين توالى اكتشافهم تباعاً من قبل (سلاطين) الطرب في لحج، وتزاملت الأغاني الثورية والأناشيد الوطنية مع عاطفة الغناء المتدفق من نهر الإبداع اللحجي في تلك الفترة مما الهب حماسة المواطنين وأجج مشاعرهم الجياشة. فخرجت للوجود الأغنية التثويرية (حيى الله أبطالك يا بورسعيد) و (اشرقي يا شمس من أرض العروبة) أو أغنية (يا شاكي السلاح) الشهيرة، وتطرق سبيت لقضية الجنوب كأول من يذكي شرارة الثورة بقوة الكلمة واللحن والأداء في أغنية (والله إنه قرب دورك يا بن الجنوب) ومن أبياتها:
يا صابر على ذلك ما أصبرك
 من با يعذرك
غيرك هيأ الحفرة با يقبرك
حطك في الجيوب
والله انه قرب دورك يا بن الجنوب
وحدثني الفنان محمد صالح حمدون عن حادثة القنبلة في حفلة (دار سعد) عندما ألح الجمهور على سبيت وهو يغني (يا شاكي السلاح) أن يكرر المقاطع فانفجرت القنبلة المؤقوتة في السيارة التي تقل سبيت والفرقة الموسيقية وهي ملك للسيد علي الصعو من أبناء الوهط واستشهد مساعد السائق وهو من أبناء تعز الذي كان نائماً فيها.

وعلى مدى الأعوام من 1957 - 1959م غنى الحمدون (والله ما فرقته) و (يا بوي) و (ألا لما متى يبعد) من كلمات وألحان سبيت الكبير قبل أن يختتم ذلك بملحمته الغنائية (يا باهي الجبين)، ثم يغادر مضطراً إلى القاهرة بعد خروج السلطان العبدلي الثائر علي عبدالكريم عام 1958م بعد احتلال لحج وهروب الأستاذ الثائر عزت مصطفى إلى تعز ثم القاهرة، ويغادر الحمدون إلى الكويت مطلع الستينيات الماضية.

لكن الحمدون يجدد شهرته بإبداعات لا تقل روعة عن أغانيه السبيتية، منها أغنية (ليه يا هذا الجميل) الجميلة وهي من شعر الأمير صالح مهدي وأغنية (يا ربيب الحب) للأمير نفسه، ومن ألحان الأمير محسن بن أحمد مهدي غنى أيضاً أغنية (صغير في سنه).
وشكل ثنائياً رائعاً مع موسيقار الأغنية اللحجية الفنان فضل محمد اللحجي بالحان خالدة لازالت تشبع الذائقة الفنية لمستمعيها. ومن ذلك أغنية (أخاف والخوف منك) للشاعر الكبير صالح نصيب والتي كان من المفترض أن تسجل في الإذاعة بصوت الحمدوني، كما غنى لفضل أغنية (قضيت العمر) و (هجرتني) و (سكون الليل والنجمة) وأيضاً (يكفي بس وامبتلي).

وفي السبعينيات غنى في الحفلات والمخادر رغم ما تعرض له من مضايقات، وكان بصحبته دائماً الشاعر والملحن عبداللطيف صالح أحمد العقربي والفنان حسين عبدالهادي والفنان زين راجل، حيث غنى لعبداللطيف أغاني منها (حبيبي سلام) وكثير من الأغاني التي ألفها الشاعر أحمد سعيد دبا بألحان العازف العملاق الفنان يحيى محمد فضل العقربي، منها (رماني) و (يضاحكني) و (الصبر حكمة) غير ما لحنه هو شخصياً.
وكانت زمالتنا في منتدى الوهط الثقافى على مدى الأعوام من 1997 - 2003م تشكل مرحلة أخيرة في حياة الفنان الكبير عندليب لحج محمد صالح حمدون الذي غادرنا على حين غرة في 13 من أكتوبر 2003م، فلا اعتراض على قدر المولى جلت قدرته ومثوى أبي وعد محمد صالح حمدون الجنة بإرادته سبحانه، إنا لله وإنا إليه راجعون.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى