في غياب المعايير

> العلم الحديث والتاريخ الإنساني يؤكدان أن الأصل في حالة الكون هو الفوضى وعدم الانتظام، وأن حالات الانتظام في الكون - والمجتمعات البشرية هي جزء من حالات الانتظام في الكون الكبير- هي حالات خاصة يمكن لها العودة إلى الحالة الفوضوية الأصلية، إذا أزيلت أو زالت الأسباب المؤدية لها.

ظهور الدولة في تاريخ البشرية يؤكد ضرورة وجودها باعتبارها جهة مسؤولة لتنظيم وإدارة وضبط حياة المجتمع. ضعف الدولة وبقائها منظومة كرتونية عاجزة عن قيامها بدورها كاملا تجاه مجتمعها، كما هو الحال في اليمن أو ليبيا كمثالان، أو زوال الدولة كاملة لأية أسباب، يؤدي حتما إلى الفوضى المجتمعية والعودة لشريعة الغاب والبقاء للأقوى، بما لذلك من آثار تدميرية على حياة الناس وعلى المجاور لهؤلاء الناس من المجتمعات.

إن وجود الدولة (في هذه البلاد أو غيرها) من عدمها أمرا تحكمه معايير دقيقة ومحددة في القانون الدولي، وقبل ذلك في حياة المجتمع المعني بتلك الدولة. وأول تلك المعايير هو شرعيتها أي وجودها باعتبارها ممثلا مفوضا من الشعب لإدارة المجتمع بموافقة ممثلي قوى المجتمع، والتزام منظومة الحكم وأجهزتها للمعايير التي يحددها الدستور والقوانين السارية في البلاد، وبالتالي إذا ما أسقطنا ذلك على الحكومة والنظام الذي يدير البلاد، سنجد أن لا شرعية لهذه الدولة لعدم توفر الشرطين المذكورين، فالنظام جاء كنظام مؤقت لعامين اثنين، فرضته ضرورة المبادرة الخليجية قبلها، التي جاءت لتلبي مصالح الدول الخليجية أولا، وأهمها تشكيل نظام يلبي تلك المصالح قبل كل شيء. وتداول تشكيل الحكومات لهذا النظام وشخوصها فاقد للمعايير الوطنية المؤهلة لشغل الوظائف العامة، وعموما يأتي استجابة لرغبات قوى ومصالح أثبتت الأيام عدائها لهذا الشعب من خلال تنصلها من أداء واجبها تجاهه، والدليل ما نراه من سياسات أدت إلى الفقر والانهيار الاقتصادي والمعيشي والتعليمي والصحي والأمني وفتح لحروب جديدة بين فئات الشعب خدمة لمصالح النظام غير الشرعي.

السنة السادسة من الحرب والدمار على وشك أن تنقضي ونحن في هذه البلاد نزداد تفتتا وفقرا وجوعا وترديا شاملا في الخدمات الأساسية، وعجزا واضحا للنظام وحكوماته المتلاحقة. ستة أعوام تنقضي وقد ثبت للجميع انحراف الحرب عن هدفها وتحولها إلى حرب الهدف منها إسقاط الجنوب سياسيا وعسكريا لمصلحة قوى الهيمنة والتطرف الديني، وعدم قدرة بل عجز التحالف عن الوصول للهدف الذي جاء من أجله.

ست سنوات من الحرب في ظل غياب المعايير التي تحدد طبيعة التحالف بين القوى الشرعية وقوى الإرهاب والتطرف من جهة وبين قوى المقاومة الجنوبية ودول التحالف من جهة أخرى، وعام أخير انقضى لاتفاقيات عقدت في الرياض غابت فيها معايير جوهرية ينبغي أن تكون موضحة وملزمة للأطراف المتوازية التي لا يمكن لها أن تلتقي، وغياب لمعايير أخرى كان ينبغي توفرها في عراب وضامن تلك الاتفاقات.

نحن أمة فاقدة للمعايير، فيها يكافأ المفسدون ويعاقب الصالحون. نحن أمة فاقدة للمعايير، يخون ويهمش فينا المخلصون والوطنيون وينصب فيها المرتزقة والعملاء والمأجورون سادة على الجميع.
في غياب المعايير يكون كل شيء ممكنا... إلا مصلحة البلاد والعباد تبقى غائبة ومغيبة في دهاليز الفساد والفاسدين.

تبقى التحية لازمة وواجبة تجاه كل رجل ذي ضمير يحاول أن يشعل شمعة من موقعه في السلطة أو أجهزتها في هذا الليل الدامس الذي طال انتظارنا لفجره.
فلا يزال الأمل لدينا في رجال لا بد أن يظهروا لينقلونا إلى شاطئ الأمان.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى