ثلاث مهمات ملحة لمستقبل الجنوب القريب والبعيد

> عبد السلام قاسم مسعد

> ينطلق بناء المجتمعات المعاصرة منذ بداية الثورة الصناعية وحتى اليوم ورؤية الشعوب لمستقبلها بالاعتماد على منتوج الفكر العلمي على ما يقدمه الفلاسفة ورواد العلوم التطبيقية والتنويريون ومنجزات الثورة العلمية والتكنولوجية، أما دور السياسيين هو فقط تمثيل هذا المنتوج وإدارته إذا ما استُوعِب، وما دون ذلك تظل قيادة المجتمع من خلال شعارات سياسية جوفاء مدخلا يؤدي إلى مشاحنات وضغائن وقهر اجتماعي وعدم استقرار سياسي، وحروب، كما تقود إلى إفقاد المجتمع لعوامل نموه وتقدمه وحرمانهم من التمتع بحياة كريمة آمنة ومستقرة.

عبد السلام قاسم
عبد السلام قاسم
من تجربة أو تجارب الجنوب السابقة بعد الاستقلال الوطني 1967 وتجارب دول فتية أخرى شابهت تجربتها تجربة الجنوب لابد أن نأخذ العبر منها ولا نكررها في سلبياتها إذا ما فكرنا في بناء الدولة الجنوبية مستقبلا على أسس علمية صحيحة وحديثة... والخلاصة في هذه التجربة تكمن في أنه تم استلام السلطة عام 1967 دون أن تمتلك قيادتها دراسات وخططا كافية لكل مشكلات المجتمع وسبل حلها، بحيث كانت الشعارات السياسية والأيديولوجيا هي الغالبة والمسيطرة ومنهج إدارة المجتمع، وفي نفس الوقت لم تمتلك ولم تُعِدْ مسبقا كادرا مؤهلا علميا وذا خبرات كافية لقيادة الدولة الفتية والمجتمع الناشئ... تجاوزوا الاستفادة من الكوادر المجربة السابقة وجاءت بقيادات وكوادر شابة نسبيا كان معيار اختيارها هو الولاء الوطني وثقافتها السياسية المصبوغة بالأيديولوجيا وتفتقد إلى التأهيل العلمي والخبرات العملية المجربة، كل هذا سحب نفسه على الممارسات والأخطاء التي رافقت التجربة، والحاجة الآن تقتضي تجاوز هذه السلبيات.

من أجل الحاضر والتطلع إلى المستقبل لابد أن تُكرَّس الجهود نحو التعامل بواقعية وعلمية تجاه مختلف مشكلات المجتمع، وهذا أمر بالغ الأهمية من حيث الحاجة الملحة إلى تصنيف هذه المشكلات كلا على حدة، أي أنه لابد أن نصنف كل فروع مجالات الحياة بدقة ونبحث في كل فرع من فروعها وتناول حتى أضيق مجالاتها، في الاقتصاد وفي المجتمع والثقافة والتعليم والحقوق والتشريع والصحة العامة وصحة البيئة والثقافة والفنون المختلفة والسياسة والدبلوماسية والإعلام التكنولوجيا المعاصرة وغيرها من المجالات وهي كثيرة، والاختصاصيون في الجامعات ونظراؤهم في التأهيل الأكاديمي والعاملين خارج الجامعة يدركون أكثر من غيرهم طبيعة هذه المشكلات وأهميتها وانعكاساتها على سير التطور، ويمتلكون الأدوات العلمية ويمكن الاستفادة من بيوت الخبرة الأجنبية الناجحة لإيجاد الحلول لها بأدوات علمية بعيدة عن الأيديولوجيا والشعارات السياسية، والأكاديميون وحدهم القادرون على تحمل المسؤولية العلمية إذا ما أفسح لهم المجال وأُخذ بأيديهم وأنيطت بهم مهمة البحث وتوصيف مشكلات المجتمع وتقديم الحلول لها ومن ثم الأخذ بها بعد صياغتها كمصفوفة واحدة لتشكل استراتيجية وطنية للبناء والتطوير.

واتساقا مع هذه الاستراتيجية لابد من التفكير الجدي في نوعية القيادات والكوادر التي ستدير عملية التطور الاجتماعي اعتمادا على مؤهلاتها العلمية وخبراتها العملية، كما يجب الاهتمام بالمنابع المعرفية التي نغترف منها هذه الملاكات في كل مراحل التعليم بدء من الروضة وحتى الجامعة وما بعدها، ووضع سياسات وخطط تدريب وتأهيل الكادر الشاب علميا وعمليا من أجل قيادة المستقبل.

تلك مهمة استراتيجية لابد منها وتحتاج إلى دراسات وأبحاث معمقة ولها طابع مستمر ومتابعة دائمة حتى يتم إنجازها بشكلٍ وتخصص أعمق وحلولٍ أدق.

أما المهمة الملحة الآن والتي هي الاستعداد لافتراض تشكُّلْ حكومة الشراكة أو المناصفة بين الشمال والجنوب حيث يتطلب الأمر وبجدية إلى إعداد رؤية علمية شاملة أيضا لكل مشكلات المجتمع الحالية ولا تقل في أهميتها عن المهمة الأولى من حيث واقعيتها وعلميتها وأدوات تحقيقها بشريا وإداريا وماديا كي يتسلح بها الجانب الجنوبي في حكومة الشراكة.

هذه المهمة يقف وراء الاهتمام الجدي بها الرغبة بل الواجب في تجاوز تجربة الدخول في الوحدة اليمنية التي دخل فيها الجنوب متكئا على الشعارات السياسية والعواطف الوطنية دون امتلاك رؤية دقيقة لحقيقة الأوضاع لا في الشمال ولا في الجنوب ولا برنامج للتعامل معها، وقادتنا هذه النقيصة إلى تسيُّد نظام الجمهورية اليمنية بكل علاته وتخلفه على الجنوب الذي أُغرق بها والتي مازالت آثارها الغريبة على المجتمع الجنوبي مطبوعة على مختلف جوانب الحياة، والهدف الآن هو الخروج منها ليس بالشعارات أيضا بل برؤى وخطط وسياسات حكيمة ومحسوبة خطواتها.

مهمة أخرى جديرة بالاهتمام الجدي بها وذات أولوية ملحة تتمثل في ضرورة ترميم النسيج الاجتماعي وهي ذات ارتباط وثيق في المهمة الأولى والثانية ولابد أن يعطى لها أهمية سياسية خاصة

لجهة التحرك السريع المدفوع والمشبع بالروح والمسؤولية الوطنية العالية لإصلاح ما تركته الأحداث السياسية في الماضي وما شابهها في الحاضر بهدف تعزيز اللحمة الوطنية وجبر الضرر وبناء الثقة المتبادلة وقبول بعضنا للآخر والمشاركة في تحمل المسؤولية الوطنية المشتركة والابتعاد عن التمترس بشعارات سياسية لا تؤدي إلا إلى الشحن العاطفي والمناطقي وتصبح أهدافا للأعداء لجهة تغذيتها لخدمة مصالحها الخاصة وتصبح معها حياتنا وقودا لها والعدو وحده هو المستفيد منها... وهذه قضية سياسية بامتياز ويقع على العقلاء واجب إيجاد الأدوات المباشرة لإصلاح الخلل في النسيج الاجتماعي كما هي مهمة لكل أفراد المجتمع في أن يحرصوا على عدم إشعال نار الفتنة وتحويل شعار التصالح والتسامح إلى حقيقة واقعية من خلال إنجاز خطوات عملية جادة وملموسة وضمان عوامل النجاح ممكنة إذا امتلكنا جميعا الإرادة السياسية، فتجربة رواندا المؤلمة في الاقتتال المتوحش وضحاياها الكثر وخطوات التصالح بين القوى المتناحرة وما أنتجته من تقدم وازدهار أبهر العالم تعد نموذجا يدفعنا إلى الاستفادة من هذه التجربة وتعزز ثقتنا في المستقبل، حتى الصومال التي كان يضرب بها الأمثال على عمق التمزق الاجتماعي والحروب وأعمال العنف والفقر والجوع والمرض نراها اليوم قد تصالح فيها أطراف الصراع وأخذت تنهض بوتيرة عالية.

المجلس الانتقالي الجنوبي اليوم معني أكثر من غيره في تصدر اتخاذ خطوات جادة لإنجاز تلك المهمات وبشكل أعمق ومراعاة أهمية قيمة الزمن وفعله.

معا نحو مستقبل أجمل وآمن ومستقر ومتطور.

واشنطن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى