​ملء الفراغ.. هل تكون بريطانيا بديلًا للولايات المتحدة في الخليج؟

> الشيماء عرفات

>
الشيماء عرفات
الشيماء عرفات
وقعّت قطر والمملكة المتحدة يوم 13 أكتوبر 2020، اتفاقية عسكرية مبدئية لتعزيز التعاون الدفاعي بين الجانبين. ووُقعت الاتفاقية على هامش افتتاح وزيري الدفاع البريطاني "بن والاس"  ونظيره القطري "خالد بن محمد العطية" مبنى قيادة "السرب المشترك 12"، أول سرب طائرات مشترك للمملكة المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. وسبق ذلك إعلان وزارة الدفاع البريطانية تعزيز استثماراتها في قاعدتها العسكرية بميناء الدقم بُعمان في 12 سبتمبر 2020، والتي تبعد نحو 500 كلم عن مضيق هرمز الاستراتيجي الذي يمر عبره ما يصل إلى 30 % من صادرات النفط العالمية سنويًّا، هذا الاستثمار الذي سيزيد حجم القاعدة البريطانية بمقدار ثلاثة أضعاف.

تلك التحركات البريطانية النشطة في ظل التمهيد لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وكذا في ظل الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة من المنطقة، تستدعى عدة تساؤلات أبرزها: ما هو حجم النفوذ البريطاني التقليدي بالخليج؟ وهل من الممكن مضاعفته بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي؟ أم إن الخروج سيؤثر على هذا النفوذ بالسلب؟ وأخيرًا هل يستمر تراجع مظلة الحماية الأمريكية عن المنطقة؟ وهل يكون ذلك التراجع دافعًا لاستدعاء الخليج لدور بريطاني أكبر تصادفه رغبة بريطانية للعب هذا الدور؟.

جذور تاريخية ممتدة
يعود الوجود البريطاني في الخليج العربي إلى القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر. خلال هذه الفترة، كانت المصالح تجارية في المقام الأول، وتم تمثيلها بشكل رئيسي من خلال التجار البريطانيين المتفرقين.
ومع التوسع البريطاني في شبه القارة الهندية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، زادت مصالح بريطانيا في منطقة الخليج. واستتبعها تعزيز التعاون العسكري والدبلوماسي البريطاني معها، فتم التوقيع على سلسلة من المعاهدات بين بريطانيا العظمى والشيوخ والقادة الذين يحكمون هذه المنطقة، مما أدى إلى منافع متبادلة لجميع الأطراف الموقعة، أشهرها معاهدة عام 1798 مع عُمان، والمعاهدة البحرية لعام 1820 مع إمارات الساحل المتصالح (الإمارات حاليًا) ثم البحرين، ومعاهدة دارين البريطانية السعودية لعام 1915، والمعاهدة الأنجلو- قطرية لعام 1916. تلك المعاهدات التي عظمت النفوذ البريطاني في المنطقة.

إلا أن تراجع مكانة بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، والمشاكل الاقتصادية الناجمة عن الحرب، وكذلك تزايد قوة الحركات القومية؛ أرغمت بريطانيا على التواري عن المسرح العالمي. وحلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي محلها.
وفي يناير 1968، أعلنت الحكومة البريطانية رسميًا قرار الانسحاب من المنطقة، وخرجت رسميًّا عام 1971. ومع ذلك فإن انسحابها من الخليج ومناطق أخرى "شرق السويس" عام 1971 لم يكن نهاية الوجود البريطاني. ففي العام 1980، أدت التوترات بين العراق وإيران إلى استدعاء الوجود البحري البريطاني مرة أخرى، فأنشأت بريطانيا رسميًا تشكيلًا بحريًّا يُدعى "أرميلا باترول" Armilla Patrol للقيام بدوريات لضمان حقوق حرية الملاحة وتدفق النفط والتجارة، واستمرت الباترول لمدة 31 عامًا، من 1980 إلى 2011. وفي العام 2011، حلت "عملية كيبيون" الجارية محل "أرميلا باترول"، والتي لا تختلف في مهامها عن سابقتها.
 
أبعاد الشراكة البريطانية الخليجية:
التعاون العسكري
تستحوذ منطقة الخليج على أكبر تجمع للقوات العسكرية البريطانية خارج المملكة المتحدة، وما يقرب من ربع قوات البحرية الملكية النشطة. ويشكل التصدير الدفاعي البريطاني للخليج ركنًا أساسيًّا من أركان السياسة الخارجية البريطانية، وأعلنت وزارة الدفاع في مطلع شهر أكتوبر 2020 أن المملكة المتحدة ظلت لمدة عشر سنين ثاني أكبر مصدر دفاعي عالمي بعد الولايات المتحدة. وكانت أكبر أسواق تصدير الدفاع للمملكة المتحدة هي الشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا الشمالية. وأرجعت هذا التصدر إلى عقود التوريد الدفاعية لدول الخليج وأبرزها السعودية وقطر وعُمان والكويت. بالإضافة لانخراطها في تعزيز الأمن البحري في الخليج، فقد صرحت البحرية الملكية بأن فرقة عمل التحالف "Sentinel" تأسست في خريف عام 2019 لتوفير مزيد من الأمن والطمأنينة للناقلات وسفن الشحن في وقت تصاعد التوترات في المنطقة.

وتتنوع أشكال التعاون الأمني والدفاعي بين المملكة المتحدة ودول الخليج، إلا أنه من الناحية القانونية لا تعد المملكة ملزمة بالدفاع عن دول الخليج، ومن أبرز أشكال هذا التعاون ما يلي:
عمُان: وقّعت بريطانيا وسلطنة عمان على اتفاقية دفاع مشترك جديدة في فبراير عام 2019، وذلك تماشيًا مع روح اتفاقية 1800 الأصلية التي نصت على أن "الرابطة بين عُمان وبريطانيا مستمرة بلا نهاية".

قطر: يقع بها المقر التشغيلي لسلاح الجو الملكي البريطاني للعمليات في منطقة الشرق الأوسط في قاعدة العديد الجوية، وهي أيضًا مركز عمليات القوات الجوية الأمريكية في المنطقة.
البحرين: يقع بها المقر البحري الرئيسي في الخليج العربي لسفن البحرية البريطانية في قاعدة "إتش إم أس الجفير" التي جرى افتتاحها في إبريل 2018. وتعُد القاعدة أول منشأة خارجية جديدة للبحرية الملكية منذ نصف قرن. وتتواجد فيها بشكل دائم أربع سفن مضادة للألغام وفرقاطة، وتستضيف سفنًا أخرى من الأسطول الملكي، بحسب موقع وزارة الدفاع البريطانية.

الإمارات: يستخدم سلاح الجو الملكي البريطاني "قاعدة المنهاد الجوية" لتنفيذ عمليات ودعم للقوات البريطانية في أفغانستان، وفي المناورات المشتركة مع دول مجلس التعاون الخليجي، ويتمركز فيها "الجناح الجوي 906". وتحتفظ المملكة المتحدة بكتيبة مشاة في القاعدة ذاتها؛ تتولى عمليات تدريب مشتركة مع القوات الإماراتية.
الكويت: يوجد عشرات العسكريين، كما أن سلاح الجو الملكي البريطاني يستخدم قاعدة "علي السالم الجوية" خلال عملياته في المنطقة، وسبق أن استخدمها خلال الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003.

التعاون الاقتصادي
يعُد الطرفان البريطاني والخليجي من أبرز وأهم الشركاء الاقتصاديين لبعضهم بعضًا، على مستويات عدة أبرزها:
التجارة: لقد تضاعفت التجارة الثنائية بين المملكة المتحدة وأعضاء مجلس التعاون الخليجي، تقريبًا بين عامي 2010 و2020، وبلغت ذروتها عند حوالي 55 مليار دولار في عام 2019. وكذا تعد دول مجلس التعاون الخليجي ثالث أكبر وجهة للصادرات البريطانية بعد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. وتتصدر الإمارات قائمة الدول الخليجية الأكثر تبادلًا للاستثمارات والتجارة مع المملكة المتحدة.

الاستثمار: تعُد المملكة المتحدة ثالث أكبر مستثمر أجنبي في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث يتفوق عليها فقط الولايات المتحدة والصين وفق إحصائيات الأمم المتحدة. وكذا استثمرت صناديق الثروة السيادية الخليجية في مجموعة متنوعة من مشاريع البنية التحتية البريطانية، بما في ذلك المطارات، وكذلك في نظامها المالي، ومنذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ضاعفت هذه الصناديق حصصها في سوق العقارات البريطاني ثلاث مرات.

إضافة إلى ذلك، فإن للمملكة المتحدة مصالح تجارية كبيرة في موارد النفط والغاز الخليجية، بالنظر إلى أن اثنتين من أكبر شركاتها (BP) و(Shell) من بين شركات الطاقة الدولية الأكثر انخراطًا في المنطقة. وكانت البنوك التي تتخذ من المملكة المتحدة مقرًا لها أكثر نجاحًا في جذب رؤوس الأموال الخليجية عن تلك الموجودة في المراكز المالية الأخرى.

تنقل الأفراد: تشير التقديرات إلى أن حوالي مليون زائر من دول مجلس التعاون الخليجي يذهبون إلى المملكة المتحدة سنويًا، مما يجعلها الوجهة الأوروبية الأولى لهم. وكذلك يعيش حوالي 500 ألف بريطاني في الخليج، نصفهم في الإمارات وحدها، بينما يزور الكثيرون المنطقة بانتظام.
تسعى بريطانيا لتعزيز تواجدها بالمنطقة، وهو ما يثير التساؤل عن إمكانية أن تسد الفجوة الناتجة عن تراجع مظلة الحماية الأمريكية للخليج، والإجابة عن ذلك التساؤل تستدعي النظر إلى العوامل التي من شأنها التأثير في تواجد بريطانيا في المنطقة بعد تراجع مظلة الحماية الأمريكية، والتي من أهمها:
أهمية منطقة الخليج: فنظرًا لأهميتها في ذاتها، وكذلك لمواجهة التهديد الذي تشكله إيران على المصالح الاستراتيجية والتجارية البريطانية والأمريكية في المنطقة، وفي ظل رغبة المملكة في الحفاظ على حرية الملاحة وتدفقات النفط، وفي حماية أصولها ومصالحها من التهديدات الإيرانية خاصة بعد اختطاف سفينة تحمل علمها في العام السابق من قبل إيران؛ فإن السعي لتعزيز تواجدها ووجود موطئ قدم لها يعُد أمرًا منطقيًا.

السعي لتنفيذ رؤية "بريطانيا العالمية": من أبرز العوامل الداعمة للعب دور أكبر وجود إرادة بريطانية تريد استعادة أهميتها الجيوسياسية من خلال تعزيز رؤية "بريطانيا العالمية"، ومن ثم فقد يُنظر إلى عودة المملكة المتحدة "شرق السويس" على أنها وسيلة للحفاظ على درجة من الأهمية الجيوسياسية، بالإضافة إلى محورية دور منطقة الخليج في تعزيز وحماية وجود بريطانيا في منطقة "الإندوباسفيك". ومن أدلة توافر شرط الإرادة إعلان رئيس الوزراء الحالي "بوريس جونسون" عن تمويل إضافي للإنفاق العسكري بقيمة 16,5 مليار جنيه إسترليني (22 مليار دولار) على مدى السنوات الأربع المقبلة، ويعد هذا المبلغ الاستثمار الأكبر منذ نهاية الحرب الباردة. وقد برره "جونسون" قائلًا إن "الوضع الدولي محفوف بالمخاطر، والتنافس حادّ أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب الباردة، وعلى بريطانيا أن تكون وفية لتاريخها، وأن تقف إلى جانب حلفائها".

موقف إدارة بايدن: أعلن جو بايدن في محافل متعددة موقفه الرافض لحرب اليمن والناقد لانتهاكات حقوق الإنسان بالمنطقة. فقد نشر في مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية في عدد مارس/ إبريل 2020 رؤيته في حال توليه رئاسة الولايات المتحدة، فصرح بأنه "يجب علينا إنهاء دعمنا للحرب التي تقودها السعودية في اليمن. ويجب أن نحافظ على تركيزنا على مكافحة الإرهاب، في جميع أنحاء العالم وفي الداخل، لكن البقاء في صراعات لا يمكن كسبها يستنزف قدرتنا على القيادة في قضايا أخرى تتطلب اهتمامًا أكبر، ويمنعنا من إعادة بناء الأدوات الأخرى للقوة الأمريكية"، مما ينذر بموقف أمريكي أكثر تشددًا ضد السعودية، وقد يصحبه تهديد بتخفيف مظلة حماية الولايات المتحدة، وعليه فاستدعاء حليف تاريخي لسد تلك الفجوة يُعد أمرًا معقولًا.

الرغبة في محاصرة النفوذ الصيني: تعتبر الصين الآن إلى حد بعيد أكبر مستورد للنفط في العالم، وأصبحت تعتمد بشكل مطرد على واردات البترول. وهي الآن تستورد ما يزيد قليلًا على 70 ٪ من إجمالي استهلاكها النفطي، وتحصل الآن على أكثر من 40 ٪ من إمداداتها من الخليج. لذا اتجهت الصين إلى إقامة شراكات استراتيجية شاملة مع المملكة العربية السعودية منذ عام 2016 والإمارات العربية المتحدة منذ عام 2018. وفقًا لتتبع الاستثمار العالمي الصيني، بلغت استثمارات بكين في البلدين بين عامي 2008 و2019 ما مجموعه 62.55 مليار دولار، والمبلغ الإجمالي الذي استثمرته الصين في جميع دول مجلس التعاون الخليجي خلال الفترة نفسها حوالي 83 مليار دولار. وارتفع حجم التجارة بين الصين ودول الخليج إلى 197 مليار دولار في عام 2017. كما عملت الصين على تعميق العلاقات أيضًا في المجال الأمني مع دول الخليج وبخاصة السعودية. وهو ما فسره البعض بأن الرياض مستعدة للتحول إلى الصين كبديل إن اتضح أن الولايات المتحدة غير راغبة أو غير قادرة على التدخل. كل هذا يفسر رغبة المملكة المتحدة في تكثيف تعاونها مع دول الخليج، وفي محاصرة النفوذ الصيني في منطقة تعد استراتيجية بالنسبة لها، وتوفير حماية وتقوية التواجد قد يساهمان في إقناع الدول الخليجية بصرف النـظر عن التقارب مع الصين.

ومع ذلك، فإن محدودية القدرات البريطانية على المستوى الأمني والاقتصادي والدبلوماسي، وهي مشكلة قد تتفاقم بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، وتراجع قدراتها الدولية مقارنة بالولايات المتحدة والصين، يجعلان من الصعب على المملكة المتحدة الاضطلاع والانخراط بقوة تلبي احتياجات المنطقة. ويدلل عدد من المحللين على هذا الرأي، بما كشفته أزمة قطر، وقطع السعودية والإمارات والبحرين العلاقات معها، عن حدود تأثير المملكة المتحدة المحدود على سياسة دول مجلس التعاون الخليجي، فهي انتقدت موقف تلك الدول من قطر دون جدوى. ويرى هؤلاء المحللون أنه مهما استثمرت المملكة المتحدة في وجودها العسكري وعلاقاتها التجارية، فمن غير المرجح أن تتمكن من لعب دور مهم في تشكيل التطورات الإقليمية إلا في حال وجود غطاء أمريكي يعزز تحركاتها، وهو ما حدث في فترة إدارة الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما"، عندما أعطت إدارته الفرصة لرئيسة الوزراء البريطانية السابقة "تيريزا ماي" للعب دور أكبر في الخليج العربي، فظهر دورها. بعكس إدارة "ترامب" التي كانت تميل للاستئثار بالمشهد والتحركات الدولية، ولا تؤمن بالتنسيق وإشراك الحلفاء في القرارات الهامة، فساهمت في دفع المملكة المتحدة جانبًا. لذا فوصول إدارة "بايدن" يمكن أن ينُذر بتسامح أمريكي أكبر، ويساهم في إعطاء المملكة المتحدة موطئ قدم أكبر في الخليج العربي.

الخلاصة أنه في ظل سعي دول الخليج لحماية وتأمين نفسها، ستتعاون مع كل من هو قادر على مساعدتها في تعزيز تلك الحماية؛ إلا أن وجود مثل هذا الحليف القوي والنافذ والقادر على لعب دور الولايات المتحدة التقليدي والذي لم تتخلّ عنه بعد، لن يتضح إلا من خلال متابعة خريطة التفاعلات القادمة وإبراز الفاعلين الدوليين لقدرتهم على لعب هذا الدور، وإن كانت المملكة المتحدة من الفاعلين الدوليين التقليديين بالمنطقة، ولها رصيد معرفي راسخ بالمنطقة، فلن يجزم هذا بقدرتها على تحمل ما يستلزمه هذا الدور.

"المركز المصري للدراسات"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى