التصالح.. الضرورة

> يعلمنا التاريخ القديم والمعاصر أن أكثر الأمم  -بغض النظر عن طبيعتها وما إذا كانت من أصل عرقي واحد أو متنوعة الأعراق والديانات والملل- وعبر تاريخها كثيرا ما تعرضت لانقسامات مجتمعية سواء على أساس عرقي أو ديني أو سياسي.

هذه الانقسامات التي قد تصل أحيانا إلى حروب أهلية مدمرة لتلك المجتمعات، والأمثلة على ذلك كثيرة سواء في كتب التاريخ أو حتى مما نعاصره حاليا. عادة ما تجد الانقسامات بأنواعها المختلفة من يلتقطها من الأعداء الخارجيين ومن يخدمهم في داخل للبلد المعني وهؤلاء يقومون بتضخيمها وتكريسها في المجتمع لتصبح تلك البلاد في وضع رخو تتجاذبه الأعداء وتسهل السيطرة عليه على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية.

إن التعافي في هذه البلدان المحترقة أمر ممكن، وكل ما يجب عمله في هكذا حالة هو إيجاد قيادة سياسية من فئات المجتمع المختلفة، تمتلك الوعي والنزاهة ونظافة اليد (ليسوا لصوصا)، تمثل في شخوصها النماذج التي ينبغي اقتداؤها، وجعلها النموذج الصالح للمواطن، الذي يجب أن يشعر بأنه مواطن كامل المواطنة، وفرصته كفرصة أي مواطن آخر في اعتلاء السلم الاجتماعي والوظيفي والسياسي في منظومة المجتمع والدولة دونما أي شعور بالنقصان أو الشعور بالتمييز العنصري أو الديني أو المذهبي.

ومن المؤكد أن بلادنا قد مرت بانقسام سياسي، استطاع بوعي أو بدونه من التسلل إلى طبقات المجتمع والذهاب طولا وعرضا في بنية المجتمع وبشكل غير طبيعي ولا منطقي دونما حاجة أو وجود لتناقضات اجتماعية تؤدي إلى ما أدت إليه أحداث يناير من العام 86 من اقتتال مجتمعي وتقتيل على أساس قبلي أو مناطقي، في بلد الحزب الواحد والأيديولوجيا الواحدة والدين الواحد والمذهب الواحد.

جرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ ذلك اليوم المشؤوم في حياة شعبنا، وحدثت أحداث كثيرة كانت امتدادا طبيعيا -بشكل مباشر أو غير مباشر- لتلك الأحداث وما تلاها من توحيد للبلاد شمالا وجنوبا بإرادة الحزبين الحاكمين في الشمال والجنوب التي أوصلتنا لما نحن فيه من انحدار وتدهور مريع وعلى كافة المستويات.

جاءت فكرة المصالحة الوطنية في الجنوب من جمعية أبناء ردفان الأبية، من رجال أعملوا عقولهم، ووجدوا أن لا خلاص من ورطتنا هذه إلا إذا حققنا المصالحة المجتمعية الوطنية الجنوبية، ولقيت هذه الدعوة رواجا وقبولا عند أغلب فئات المجتمع الجنوبي، وارتأوا الناس وبالذات الأجيال الحديثة أن ما من سبيل لنيل الحقوق الضائعة إلا بالتصالح المجتمعي الحقيقي، وأقول المجتمعي لأن المجتمع هو من دفع الثمن الرهيب لتلك الأحداث البائسة. وأصبحت فكرة التصالح -لعقلانيتها- في مهب كل الرياح التي تصفر بها وأغنية للسياسيين الوطنيين وغيرهم من القوادين وتجار الأزمات وتجار الحروب... وأصبحنا على مدى الساعة نسمع جعجعة ولا نرى طحينا ينتج خبزا نأكله سوية.

المصالحة المجتمعية والوطنية وبصدق نقولها تقتضي:

أولا وقبل كل شيء: إقصاء كل من كان طرفا في المأساة. على هؤلاء أن يستكملوا حياتهم بعيدا عن السياسة، فمن أفسد لا يمكن أن يصلح ما أتلفه. كما أن على الدولة أن تؤمّن حياة كريمة لهم بعيدا عن أي أعذار أو مبررات.

ثانيا: منح الشباب ممن لم يعاصروا تلك الفترة الفرص في القيادة.

ثالثا: تنفيذ مبدأ المصالحة قولا وعملا، فلا احتكار للوطنية ولا للوظيفة العامة، ولا للمناصب العسكرية ولا احتكار للصوت الإعلامي.. فكل أبناء الجنوب سواسية ومن حق الفرد أن يحصل على فرصته بناء على قدراته العلمية أو الإدارية أو الفني.

رابعا: لا بد من عقد مؤتمر ضخم بحجم الحدث، تلتئم فيه صفوف القوى الجنوبية وتعلن المصالحة الوطنية العامة لكل أبناء الجنوب، بمختلف أطيافهم السياسية والاجتماعية مع ميثاق شرف يوقع عليه أبناء الجنوب. وفي هذا المؤتمر ننهي هذا الموضوع بنتائج حقيقية، ولنقول للأمم، إن الجنوب أغلق هذا الملف مرة وإلى الأبد، لنتفرغ لأمور المستقبل وما أكثرها وما أكثر أهميتها ذلك أن المستقبل الذي نراه يحدد لنا من هنا وهناك لا يبشر بخير وذلك أمر يدعو للقلق وليس القلق فقط.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى