صاحب (الصباح) القلم الساخر.. العم سعيد الجريك

> كانت عدن الدولة في الستينيات الماضية اكتظاظ في كل شيء؛ البحر بالسفن التي تخفض هامات صواريها عند ملتقى الماء بالجبل تحت أقدام صيرة، والبهجة بالنفوس التي ترتاد عدن كالطوفان من كل العالم، ترى شيئا مغايرا فريدا من نوعه فيها رغم حرها الشديد، فعجبا لأمر هذه المدينة.
ثم تمايل الزمن على مفترق من طرق، وكانت ثمة أنفس غضبى قد لا نستقر على فهم كنه غضبها ونحن على مبعدة من زمنها.

وعلى كل حال، سوف نفترض ونعترف أن سقف تطلعات أبناء عدن كان أعلى من متاح الليبرالية الإنجليزية في مدينتهم.
ولكن أين نحن من العم سعيد الجريك صاحب الحظوة والصورة الحقيقية المغايرة في بلاط صاحبة الجلالة؟
سعيد الجريك
سعيد الجريك

في تقفي أثره، يكون الجريك قد اختط خروجا باكرا من جبال (بني شيبة) بحجرية تعز إلى عدن، وكأن (سفر) الخروج مقرر سلفا صوب عدن الـ (كوسموبوليتية) كاختطاط جاذب لهجرات من الشمال إلى الجنوب عكس مسار الطيب صالح - رحمه الله - في (موسم الهجرة إلى الشمال). هذه وحدها مدعاة لاقتفاء الأثر إثر الأثر، من الجبال المنيفة والأصقاع القريبة والبعيدة إلى مدينة (الموزاييك) هذه، فيعجزنا الفهم الصحيح حقا لمصدر (العدون) في المدينة الأسطورة عندما يغدو الداخل إليها (عدنيا) بعد اغترافه شربة من بئر (الزعفران) ومن الوهلة الأولى.

في إطار هذه الشفرة (الدافنشية) يتخذ الجريك من المرفأ المكتظ خلفية له، و يذهب في بحث مبكر عن المغامرة في إمبراطورية السحر إثيوبيا.
ثم تقوده قدماه إلى منبت شكسبير في لندن ليتزود قليلا أو كثيرا من علم بلاد لا تغيب عنها الشمس.

في الستينيات الملتهبة كانت صاحبة الجلالة سلطة وعي في الشارع العدني. هنا تتشابه الأسماء وتفترق، تأخذ من ليبرالية الإنجليز ما تريد أن تصوغه لتشكيل الرأي العام، آخذة بجلابيبه صوب الثورة والتغيير. و يبرز ملوك التعبير الإعلامي عبر الورق والحبر غير متوجين بطبيعة الحال إلا بأكاليل الكلمة، وقد كانت (الكلمة) في البدء كما أرادها السيد المسيح عليه السلام، يصطف جيل من الكبار: محمد علي لقمان، محمد علي باشراحيل، عبدالرحمن جرجرة،أحمد عوض باوزير ،عبدالله عبدالرزاق باذيب، عبدالله عبدالوهاب نعمان، صالح دحان، محمد سالم علي، أحمد شريف الرفاعي، عبداللطيف كتبي، محمد حامد العولقي، عبدالعزيز مرعي الكثيري، محمد ناصر محمد، والقائمة تطول. فأشرفت (الصباح) لسعيد الجريك لتكون بمنزلة (ملح) مائدة الصحافة العدنية، ليعيد الجريك إلى الكتابة مجد عبدالله النديم في (التبكيت والتنكيت) في مصر المحروسة في القرن التاسع عشر، أو هو الجريك نفسه ذو صلة لصيقة و قريبة بـ (الفضول) ليمضي من حيث توقف صاحبها الأستاذ الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان، ليضيف الجريك من عنده خفة دم أخرى وسخرية تضحك المرء؛ ليبكي وسط زخم سياسي وطني قبل الاستقلال عام 1967م في عدن وفي الحديدة بعد ذلك، ليظهر في ترويسة (الصباح) على مرتين في عدن والحديدة، وفي فمه قفل حقيقي، وكأن الجريك قد وصل إلى مرحلة (اللاكلام) وهو يفعل الكلام بعينه.

في الحديدة على أيام الشيخ سنان أبو لحوم، يكون الجريك في عين عاصفة الأحداث، محظيا ومقربا من الشيخ و مطاردا و سجينا على أيدي عناصر أمن النظام. ولكنه يمضي على سجيته كـ (برنارد شو) بمزايا صحفية لليمن.
و في كل ذلك، لا تغفل عينه عن الإيقاع بأخطر جاسوس إسرائيلي عجزت سوريا من الإيقاع به، وسقط في الحديدة بنباهة من صاحب (الصباح).

لم تزل أطياف الحرف وعبقه ؛ والورق و رائحة الحبر و شيء اسمه (الصباح) تراود مخيلة شيخ الصحافة العجوز العم سعيد الجريك، الراقد في إحدى المشافي بعدن.
له التحية في مرقده، و بعد أن يخرج منه سالما بإذن الله.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى