لحج العنقاء متى تنتفض؟

> محمد العولقي

>
محمد العولقي
محمد العولقي
كانت وطناً للفن والثقافة والرياضة، كانت بؤرة مدهشة للإبداع، ووطناً جامعاً لكل ما يثير فيك الدهشة، إعلاميوها شخصيات ثقيلة الوزن تنثر عبقها من جذور التاريخ، في الفن كانت رائدة بتجليات بساتين الحسيني جنائن وورد نيسان، كانت حديقة غناء للرياضة برائحة فلها الذي سلب عقول الناس وهام به كل الشعراء، كانت فاتنة مثل سبيكة ذهبية تتلألأ على ضفاف وادي عقان، ولؤلؤة تغتسل مثل طيور الجنة من وادي تبن. إنها لحج، لحج التي كانت جنة الله في أرضه.

اليوم تبدو أطلالاً، خراباً ويباباً، لا خضرة لا ماء لا وجه حسن، معالمها تصدعت، بساتينها غاصت في وحل الإهمال، حدائقها الغناء جف ضرعها، يبس زرعها، فنها توارى، ومجدها الثقافي الغابر تهاوى، ورياضتها المدهشة خارت قواها، في زمن حوّلها "طاهش الحوبان" وشلة "علي بابا" والأربعون حرامياً، إلى عصف مأكول، إنها لحج الحزينة، جنتها أزلفت أمام جحيم مسعور يحرق هويتها الفنية والثقافية والرياضية.

كانت لحج لسان القمندان الأصدق إنباء من كل سيوف الحضارات، وكانت ديواناً أدبياً يتنافس فيه المتنافسون في سوق لحجي شبيه بسوق عكاظ، كانت عاصمة رياضية تزخر بلاعبين أفذاذ من طينة (بيليه)، وأندية حقيقية لا تضارب بعملاتها الصعبة في ميادين الكرة، كانت المتحدث الرسمي للثقافة ومحراب زهاد التصوف الديني، لا أحد يشبهها في مجدها وأمجادها، كانت تبدو مثل مدينة فاضلة تتعايش فيها الفنون بسلام، تحترم فيها القوانين، ويحكم دستورها الخالد علاقات البشر والشجر والحجر بالدولة، إنها لحج الساحرة التي تتراقص خضرتها على ترانيم وسمار أقمار لا تأفل.

الآن زاغت أبصار أبنائها وبلغت قلوب مبدعيها الحناجر، ماتت طيور الجنة على أسوار الاستهداف، وانتحرت نوارسها على شبابيك الاستقصاد، لا حقول ياسمين تدهشك، ولا رائحة فل تجذبك، عاصمة الفنون ماتت إكلينيكياً منذ أن حكمتها عصابات الليل، ومنذ أن استبدلت النوارس بالبوم والغربان والجراد، مات مبدعوها من الحسرة والألم، فيصل علوي رحل وفي فمه مرارة الخذلان، وعبد الكريم توفيق فاضت روحه وحيداً، وقد ترك الأوغاد الدمع يشوي مقلتيه، وسعودي أحمد صالح ينتظر نفس المصير البائس "أشوفه في الخيال واقف أمامي، يشاغل قلب متألم وظامي"، رياضتها تلاشت وأنديتها تهالكت وتحللت مثل فطر عفن الخبز، وما تبقى لها من عشاق يشحتون لينشطوا، وما أقسى على النفس أن يموت الإبداع وتجف آباره وحقوله في ليل (وطاويط) نظفت ما تبقى من رياضة لحج بالليفة والصابون، إنها لحج التي تحتضر فنياً، وتختنق رياضياً وتتصدع ثقافياً.

كانت القريحة الشعرية تفيض وتنساب في رقة على عيدان الذرة، كانت الأنغام تلبس روح بستانها الشهير، حيث القصيدة تحوم مثل الفراشات على تخوم غوطة لا تتنفس بغير رحيق الزهر، كانت تغني للأمل، للغد، تحيل ليالي السمار إلى أستديوهات تحليلية لا تتوقف عن التصديح والترتيل، لم تكن سوى غيمة أو سحابة مشبعة بالإبداع، تمطر حيث تشاء، كانت كرنفالاً رياضياً يومياً يجذب الفرق العربية من المحيط إلى الخليج، كانت مثل زمان وصل الأندلس، دولة يسكنها القانون، ويسكن أهلها في بيوت الحق المنزل من السماء، إنها لحج التي ألهبت مشاعر الأدباء، وأججت في القلوب لوعة الشعراء، وأشعلت في العقول مصابيح الوعي الرياضي.

اليوم عبثت بها (طحالب) المتخلفين والمحتورين، عاثوا على أطلالها وخربوا ساعات لياليها، جاءت سفن (مغول) الوحدة محملة بالقراصنة وبلصوص أنصاف الليالي الحالكات، سحبوا بساطها الأخضر، أحرقوا بساتينها وحقولها، سمموا هواءها النقي، مسحوا هويتها الفنية والثقافية والرياضية، تاجروا بخصوبة أرضها، استبدلوا (فلها) في ليالي العرس ببلس المرارة وشوك الخسارة، لعود فيصل علوي أنين خافت يحكي تاريخ جسد لحج المثخن بالجراح، جسد لحجي لا يعترف إلا بجغرافية الوطن الأم، حيث يبدو الالتصاق الوجداني أزلياً لا يفسر.

لحج تلوك وتمضغ مرارة واقعها اليوم، تبدو حوطتها العتيقة مثل يباب ليل بلا نهار، تغفو على جانبي وادي تبن، تسأل بلسان الإنسان اللحجي البسيط البعيد عن كل لغات العنف: يا ليلُ، الصبُ متى غده؟ تستحضر ماضي أزقتها ودروبها الضيقة المتلاصقة الشفاه، تفتش في أسواقها وهندستها المعمارية عن عبق ضل طريقه، تفوح منه رائحة مجدها الغابر.

حسناً يا لحج الساكنة في أعماق النفس كأسطورة من لحم ودم، جمالك الأخاذ الذي خلب لب الشعراء وفتن عقول الفلاسفة أزعج (مظليي) اليوم، أزعج وقض مضجع مصاصي دمائك المبهورين بالقتل والتدمير والتخريب، يوزعون كراهيتهم للحج على هيئة طعنة غادرة، لخنجر سفاح غادر.

يا ردفان الأشم.. من عليائك تتقصى لحج أثر سيرها ومسيرها، تنتبذ جانباً علها تسمع قليلاً من صدى السنين الحاكي، تراك بعينين متقرحتين شاهداً، رقيباً فوق العادة، صخورك التي أدمنها العشاق والثوار الأحرار لم تهدأ براكينها بعد، ما زالت ترعب أعداء الحياة، وتحفر على فلتات ألسنتهم أخدود خوف من فوهة ثورية جديدة تتأهب لتقذف حممها في وجوههم الفسفورية.

كانت لحج مهبطاً للوحي الإبداعي، لكأنها في هندستها أقرب إلى عوالم (علاء الدين)، عنقود عنب يتدلى من مسلة خضراء تذوب بين السبول والسيول، وتغتسل بماء البحيرة، تراها من فوق جبالها الشاهقات مثل لوحة مائية رسمتها ألوان الطبيعة، هبت عليها رياح فساد (البيروستريكا) فجعدتها ومحت أثرها ونسفت دوحتها.

كانت لحج سيدة الموروث الغنائي، وساندريلا الموسيقى، وموناليزا النصوص الأدبية، وبيت الفن بمختلف أوزانه الإيقاعية ومقاماته الموسيقية، كانت روح القمندان، ومهجة عبدالله هادي سبيت، وإلياذة صالح نصيب، ومقامة حسن عطاء، وسلوى لولة نصيب، لحج اليوم بلا شمس موسيقى، بلا قمر أدبي، بلا كوكب رياضي، وضعها قراصنة السياسة تحت إبط الإقامة الجبرية، تصرخ وتستغيث فلا (معتصم) جنوبي يسمع، ولا عين (رشيد) تدمع، ارفع رأسك أيها اللحجي إلى سمائك الموغلة في الرماد، حيث الغربان والبوم والجراد تأكل بعضها البعض كالنار تماماً، فقط تذكر أن لحج ستنتفض في يوم عبوس قمطرير، وسيلتهم ثقبها الأسود القراصنة والفاسدين، وستبرز كالعنقاء من وسط رمادها، لتفرد جناحيها في خيلاء، سينكسر قيدك وسينجلي ليلك الموحش، وستسكن مهجتك مجدداً بين الحشا والروح.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى