"شحر حضرموت" ولعنة الموقع الاستراتيجي

> جمال شنيتر

> تعاقب على المدينة غزاة من الداخل والخارج
لعبت مدينة الشحر في جنوب شبه الجزيرة التي حلت في بداية العصر الإسلامي مكان ميناء قنا القديم، دوراً محورياً كبوابة لحضرموت على المحيط الهندي لأكثر من ألف عام (632 - 1915)، وجاء ذكرها في عشرين مصدراً من مصادر العصر الإسلامي الوسيط على أنها إحدى ممالك شبه الجزيرة العربية، وأهم المنافذ البحرية بين عدن وعمان وبين الساحل الجنوبي للجزيرة العربية وأفريقيا والهند.

والشحر هو الإقليم، الذي يطلق على المنطقة الساحلية الممتدة في جنوب شبه الجزيرة العربية من شواطئ محافظة أبين غرباً حتى شواطئ ظفار في الشرق، حيث ذكره أبو محمد بن يعقوب الهمداني في مؤلفه المشهور "صفة جزيرة العرب" وسماه "موضع أبي ثور المهري". أما الشحر حالياً، فهي المدينة الحضرمية التي تقع على ساحل بحر العرب، وتشكل إحدى مديريات محافظة حضرموت.
ضريح قتلى قادة المقاومة السابعة (علي باكركر)
ضريح قتلى قادة المقاومة السابعة (علي باكركر)

وبحسب نتائج حفريات البعثة الأثرية الفرنسية في موقع دار البياني بحافة القرية في الشحر، التي جرت خلال الفترة من عام 1996 إلى 2007، فإن تاريخ تأسيس المدينة يعود إلى عام 780، مع البدايات الأولى لقيام الدولة العباسية. وللشحر مجموعة من الأسماء الأخرى، وهي الأسعاء وسعاد وأم اليتامى والسوق وسمعون والكحيلة ومدينة آل عاد.

الأهمية الاستراتيجية
يؤكد الباحث في التاريخ محمد عمر باموسى، الأهمية الاستراتيجية التي تحتلها الشحر كموقع مهم على الخط الملاحي الدولي للتجارة العالمية منذ قرون عدة، ولذلك اعتبرها ربابنة السفن مركزاً تجارياً مهماً لساحل حضرموت، تتوقف السفن فيها للتجارة، وظلت محتفظة بمركزها التجاري قروناً عديدة، لذا ورد اسمها في عديد من مذكرات الملاحة البحرية وربابنة السفن الشراعية، حيث كانت تشكل شريان الملاحة البحرية حينها.
المبنى بسدة العيدروس نسبة لساكنه قديما (علي باكركر
المبنى بسدة العيدروس نسبة لساكنه قديما (علي باكركر

يقول باموسى: "الشحر من أهم الموانئ البحرية على الساحل الجنوبي للجزيرة العربية، فالميناء ارتبط بصلات تجارية مع مصر الفرعونية قبل الميلاد، فعندما حفر الفرعون (سنوسرت) في عام 1874 قبل الميلاد القناة التي ربطت نهر النيل بالبحر الأحمر، ازدادت حركة السفن التجارية إلى هذا الميناء، لتنقل بضائع الشحر، خصوصاً العنبر والصبر واللبان الشحري الذكر، الذي تزايدت طلبات الفراعنة عليه، فقد استخدم في الطقوس الدينية وصناعة البخور".

ويضيف: "كذلك ارتبط ميناء الشحر تجارياً مع موانئ الخليج العربي والهند وخليج الملايو والصين، إضافة إلى موانئ البحر الأحمر وشرق أفريقيا، وكانت سفن المواسم تنطلق منه بحفل وداع كبير بالطبول، يشترك فيه البحارة وأهاليهم وسكان المدينة، وبنفس الحال تُستقبَل عند عودة المواسم".

اقتصاد متنوع
يشير باموسى إلى أن تجارة الشحر "لم تكن محصورة" في اللبان الذكر والعنبر الشحري والأسماك فقط، لكنها كانت ذات طابع اقتصادي متنوع، فهي ميناء "ترانزيت" من وإلى أقطار خارجية عديدة، وقد ورثت الشحر تلك المهمة التي كان يضطلع بها ميناء قنا (في محافظة شبوة حالياً).
البوابة الغربية لسدة الخور (علي باكركر)
البوابة الغربية لسدة الخور (علي باكركر)

بعد أن استولت مملكة سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات على الجانب الغربي من حضرموت في تاريخ ما قبل الإسلام، وهو الجزء الممتد من منطقة قنا "بئر علي" إلى المنطقة المعروفة اليوم "بعين بامعبد" على الساحل، حوّل الحضارمة مركز تجارتهم في الداخل من "شبوة" العاصمة إلى مدينة "شبام"، وتحول مركز تجارتهم في الساحل من ميناء "قنا" إلى الشحر، وحدث ذلك بداية القرن الأول الميلادي.

الغزو البرتغالي
بحسب باموسى تعرضت الشحر خلال تاريخها للغزو المحلي والأجنبي، كان أشهره الغزو البرتغالي سنة 1523، ويعود هدف البرتغاليين إلى تصميمهم على الانتقام منها وتحييدها وتأديبها وتحطيم إمكاناتها المالية والبشرية، وشل حركة الميناء، انتقاماً لدورها الوطني في نجدة عدن لصد الحملة البرتغالية عليها في عام 1516، عندما أرسل السلطان محمد بن عبد الله الكثيري حاكم الشحر نجدة حضرمية مكونة من ألف مقاتل من قبيلتي الحموم والمهرة.

واتخذ البرتغاليون بحسب الباحث، لذلك الغزو ذريعة "ادعوا فيها أن تاجراً برتغالياً مات في الشحر، وأن السلطان استولى على ممتلكاته، بالتالي يطالبون بردها، وجهزوا حملة لتنفيذ ما عزموا عليه، فهاجموا الشحر بنحو 400 مقاتل مسلحين بالبنادق وحاملين معهم معدات الحريق وكميات من البارود والنفط والسلالم الخشبية".
البوابة الجنوبية الغربية لحضن ابن عياش (علي باكركر)
البوابة الجنوبية الغربية لحضن ابن عياش (علي باكركر)

وكانت بداية الهجوم بحرق "مستودعات الأخشاب ومباني الميناء والتوغل إلى داخل المدينة، إلا أن القوة البرتغالية واجهت مقاومة شعبية من أبناء الشحر التي قسمت المدينة إلى مربعات، وزعت وفقاً لخطة لجنة الطوارئ التي شكلها الأمير مطران بن منصور في غياب السلطان بدر بن عبد الله الكثيري، الذي كان في زيارة لحضرموت، وكانت اللجنة مشكلة من خليط من العلماء والتجار والحرفيين".

وخلال ثلاثة أيام متتالية، جرت معارك حامية الوطيس قتل فيها مجاميع كبيرة من البرتغاليين في أحياء عديدة من المدينة، نتيجة للمقاومة الشعبية البطولية للشحريين الذين استشهد عدد منهم، أبرزهم زعماؤهم السبعة الذين قادوا المقاومة التي انتهت بصد الغزاة ورحيلهم.
وظل أهالي الشحر يحتفلون سنوياً بانتصارهم على الغزاة حتى عام 1977، حين قررت الدولة الاحتفال الرسمي بالمناسبة، باعتبارها حرباً وطنية وعيداً للمقاومة الوطنية.

غزو متجدد
لم يكن البرتغاليون وحدهم من حاولوا غزو الشحر، بل كانت لدول خارجية وإمارات وسلطنات محلية أطماع في احتلالها، نظراً إلى الموقع المهم الذي تحتله.

ويمكن تلخيص ذلك بالإشارة إلى أن السلطة في الشحر ظلت في يد قبيلة كندة وبالذات في كهلان المتفرعة منها منذ ما قبل خضوعها للدولة الإسلامية، ثم دولة آل إقبال "آل فارس آل راشد" التي حكمت منذ مطلع القرن الثاني عشر الميلادي، وبعد مغادرتهم، أقدم من يعرفون بالأيوبيين على غزوها وهم خليط من الأتراك واليمنيين، واستمروا في حكمها حتى 1219 للميلاد، حين زحف جيش عمر بن مهدي اليمني على الشحر وطرد حكامها آل فارس وحكمها، تلاه الرسوليون أثناء حكم المظفر الرسولي ثم الطاهريون.

واستمرت الممالك في التعاقب على المنطقة حتى سقوط الدولة الكثيرية الثانية في عهد آخر سلاطينها جعفر بن عمر في عام 1737، حينها تقاسمت الحاميات اليافعية التي وزعها آل كثير على المدن الحضرمية لحماية ما تحت أيديهم من المدن، إلا أن وضعاً جديداً نشأ في حضرموت عندما قرر عمر بن عوض القعيطي اليافعي، وغالب بن محسن الكثيري من حيدر أباد في الهند، تكوين إمارات لهم في حضرموت، وعلى ذلك التحرك ازدادت العلاقة توتراً بين آل كثير وقبيلة يافع عندما بدأت تبرز الرغبة الكثيرية في السيطرة على المدينة.

آثار ومعالم
يلفت باموسى، الباحث الذي أضاء لنا كثيراً من معالم المنطقة، إلى عدد من المعالم الأثرية والتاريخية للمدينة، ومن أهمها حصن المصبح وحصن دار ناصر وحصن بن عياش وجسر سمعون وسدة الخور وسدة العيدروس والمسجد الكبير.

غير أن عوامل التعرية أسهمت في التأثير السلبي عليها، خصوصاً أن معظمها بني من الطين على مقربة من ساحل البحر حيث تؤثر الرطوبة على مقاومة تلك المباني، أضف إلى ذلك "إسهام التعرية البشرية في تدمير ونخر تلك المعالم، وتسهم الدولة في الحفاظ على ما تبقى من تلك المعالم من خلال الصيانة التي تواجه في كثير من الأحيان بالتعثر، لعدم رصد الاعتمادات الكافية، وضعف دور المنظمات الدولية في ذلك".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى