عن الشرعية وممثليها في اليمن

> لا يجوز أخلاقيًا أن تكون المعركة الدائرة تحت شعار "استعادة الدولة" حاجزًا يمنع انتقاد الفساد والسلبيات التي تسببت في إطالة أمد الحرب.

يتصور الكثيرون أن كل منتقد لأداء ممثلي الشرعية باحث عن وظيفة، هي حق عام، أو ساعٍ إلى ابتزاز السلطة بغرض شخصي، أو منتقم منها أو خصم لها، وهؤلاء صاروا يسيئون إلى مضمون فكرة الشرعية ومبادئها؛ إذ صاروا لا يميزون بين المبدأ وبين من يمثله، فكل منتقد لأداء ممثليها وفسادهم وكسلهم هو في نظرهم معارض للشرعية كوسيلة وإطار وغاية.

يضع الدستور اليمني الحالي، المعمول به حتى اللحظة، ضوابطَ للعمل السياسي وأطرًا للمسؤوليات والواجبات والقيود القانونية التي تتحكم في تصرفات من يرتبطون بالوظيفة الحكومية ويعملون في الشأن العام، كما يضع قواعد المحاسبة والرقابة على تصرفاتهم، لكن المؤسف أن مجمل تلك النصوص الدستورية والقيود الأخلاقية التي تلازمها، تم تجاهلها بتوافق انتهازي بين قادة الأحزاب، ولم تعترض عليها كوادرها المستسلمة للتوجيهات الحزبية، وقبلت بها من دون نقاش ولا مساءلة، وكان ذلك بداية منطقية طبيعية لدورة تحلل أسس العمل المؤسسي، وارتفاع منسوب الرغبات الشخصية في مقابل انحسار الاهتمام بالشأن الوطني العام.

خلال العامين الأولين من الفترة الانتقالية التي بدأت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 مع التوقيع على المبادرة الخليجية، انصب تركيز أحزاب اللقاء المشترك "المعارضة" على توظيف أنصارهم في الوزارات التي حصلوا عليها بموجب الآلية التنفيذية الملحقة بالمبادرة الخليجية، ولم يكن ذلك أمرًا يثير الاستغراب بموجب الشراكة الجديدة مع المؤتمر الشعبي العام، إلا أن تلك التعيينات والإجراءات التي كان بعضها انتقائيًا وانتقاميًا، لم تضع اعتبارًا لقوانين الخدمة المدنية ولا لمعايير الكفاءة والتجربة، فتدهور الأداء الحكومي الضعيف أصلًا، وحدث اضطراب في كيفية إدارة المؤسسات، ولم يشكل هذا أي انزعاج عند شركاء الحكم الجدد.

وأضيف إلى هذا، وهو الأخطر، أن الخلل وصل إلى هيكل القوات المسلحة التي ارتبك أداؤها وولاؤها الوطني بسبب غياب القيادة العسكرية القادرة على الحزم داخل مؤسسة هي الأكثر تأثرًا وتأثيرًا داخل البلاد.

لم يتوقف الكثير عن التحذير من سوء الأداء وعواقبه المتوقعة، ولكن الوافدين الجدد للشراكة في الحكم كان همهم استمرار البقاء في السلطة، وتحول مؤتمر الحوار الوطني إلى موسم مفتوح للمزايدات السياسية، ورفع المشاركون سقف المطالبات والأحلام، وخرجوا برقم فلكي من التوصيات تم إيجازها في مسودة الدستور الجديد الذي تمت صياغته في 464 مادة، لكنه لم ير طريقه إلى التطبيق بسبب تبعات الأحداث التي جرت منذ استيلاء الحوثيين على عمران ثم صنعاء، وبعدها احتجاز الرئيس ورئيس الحكومة وعدد من الوزراء، وأخيرًا اندلاع الحرب الحالية فجر الـ 26 من مارس (آذار) 2015.

في ذلك التاريخ، خرج من اليمن إلى الرياض كبار ممثلي الشرعية وقادة الأحزاب خشية التعرض لخطر البقاء تحت سلطة الحوثيين، وكانت تلك لحظة فارقة؛ إذ نزح معهم وبعدهم كثير من الكوادر المنتمية لأحزاب المعارضة واستقروا في الرياض، ولحقت بهم أسرهم بمظنة أن الإقامة لن تطول وأن العودة وشيكة.

واليوم، ومع اقتراب بدء العام السابع للحرب، ارتفع منسوب الإحباط والقلق، وفي الوقت نفسه ازداد يأس الناس في الداخل من تحسن كفاءة وأداء من يزعمون تمثيلهم في الخارج، وتقلصت آمالهم بحدوث تغيير في موازين القوى، وتوقف دورة الدماء والدمار والأحقاد، وبما يتيح التوصل إلى حل سياسي يرتضيه الجميع، تأسيسًا لمستقبل موعود.

إن ما لا يدركه من يمثلون الشرعية أنها في جوهرها مبدأ أساس تحتاجه كل دولة لحماية الأوطان، وليست رداء يمكنهم التدثر به لتحقيق فائدة مادية، ولا يجوز الاعتقاد بأنهم الأكفأ لحماية الوطن من الأخطار بمجرد ادعاء أحقية تمثيله؛ لأن الأداء على أرض الواقع هو الذي يمنحهم ذلك الحق، وليس القرار الدولي ولا حتى الاعتراف الخارجي، وإذا لم يتمكنوا من الحصول على ثقة الناس فلن يجدوا من يدافع عنهم أو يحترمهم أو يعول عليهم، إلا إذا كان، بطبيعة الحال، من ضمن المنتفعين هو وأبنائه وإخوته وشلته.

من المؤكد أن هناك حاجة ملحة للبحث عن أطر جديدة لتعزيز أداء أجهزة الشرعية كي تستعيد الثقة الداخلية والخارجية في أدائها، ولربما كانت البداية وقف عبث التعيينات على المستويات كافة، وتنقية جداول التوظيف التي تمت بمزاج مناطقي تمتلئ بها كشوفات وزارة المالية، وإلغاء كل المخصصات التي تصرف لمن هم في درجة وكيل وزارة فما أعلى، والاكتفاء بالرواتب بحسب جداول عام 2014 بالعملة المحلية، إذ لم يعد من الأخلاقي العبث بالعملة الصعبة، وأتمنى أن يبدأ مجلس النواب هذه العملية، فهم كما نتوقع حريصون على المال العام على افتراض أنهم جهاز تشريعي ورقابي في الوقت ذاته.

وأخيرًا، ارتفعت أصوات بين ممثلي الشرعية تنادي بأهمية تنشيط عملها وضرورة إعادة هيكلتها، لكن من السخرية الإصرار على إعادة تدوير الأسماء ذاتها والآليات نفسها التي لم تنتج إلا فشلًا متواصلًا وفسادًا صار شعارًا صارخًا ويمثل عجزًا فاضحًا، وقد وصفهم لي سفير غربي بأنهم "مجموعة من العاجزين غير الأكْفاء"، ومن المضحك أن الحاصل حاليًا هو صراع محتدم في الفشل بين من اغتصبوا تمثيل الشرعية ومن اغتصبوا السلطة في صنعاء، وكان بإمكان أحدهما أن يستحوذ بسهولة على تمثيل البلاد كاملة بشيء من حسن التدبير وقليل من الفساد، لكنهما يتباريان بمهارة في تدمير مفهوم الدولة في أذهان المواطنين، وتحويلها إلى وسيلة إثراء شخصي.

كثيرا ما كررت أن "الشرعية" ليست مجرد يافطة يتم وضعها فوق متجر خال من البضاعة، وهو ما يحدث حرفيًا الآن، فالذين يمثلونها يتصورون أنهم أصحاب حق مطلق في توجيه الاتهامات ضد كل منتقد لدورة الفساد التي استهلكت الموارد الشحيحة، وأنه خصم للوطن ويقف في صف الأعداء، مستنسخين بذلك وسائل الكارثية القبيحة، وذاك أسلوب قديم لم يعد صالحًا، وإنما المجدي هو تحسين الأداء ومكافحة الفساد وضبط الإنفاق وتقليص التعيينات، عدا ما هو حيوي، ومنع تولي الأقارب المباشرين للوظيفة العامة، وعدم الانشغال بالترويج والدعاية الشخصية المدفوعة من المال العام، كما لو كان كبار الموظفين في حملة انتخابية محتدمة.

إن الواجب الوطني يحتم على كل مواطن الدفاع عن "الشرعية" كمبدأ وحمايتها والحرص عليها، وفي الوقت نفسه لا يجوز أخلاقيًا أن يتحول شعار "استعادة الدولة" إلى حاجز يمنع انتقاد الفساد والسلبيات التي تسببت في إطالة أمد الحرب، وشكلت عائقًا حقيقيًا أمام الانتصار لإرادة المواطن ورغبته في وجود دولة حقيقية تستحق تمثيل الشرعية وقيمها وأهدافها، وللأسف، فإن ما يحدث يمثل انتكاسة وطنية وضعت المواطن بين طرفين لا يمكنه أن يرى في أي منهما من يستحق تمثيل "الشرعية الوطنية".

"اندبندنت عربية"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى