في ظل انحسارها.. هل ستصبح الصحافة الورقية من الماضي؟

> تقرير/ عبدالقادر باراس

>
  • التواصل الاجتماعي طريق قصير لشهر مغمورين سمموا البيئة الإعلامية
  • بحاح: الصحف اليوم تصدر بنسختين لكن الغلبة لنوافذ الإنترنت
  • هل أصبحت الصحافة الورقية غير قادرة على مواكبة التحولات بانتشار فضاء الإنترنت تأثرت الصحافة الورقية نتيجة استمرار الحرب والأوضاع الاقتصادية وكلفتها الطباعية
جاء التلفزيون في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ومازال عشاق المذياع (الراديو) له جمهوره، كما لقراءة الصحف والمجلات خصوصا المطلعين حتى هذه اللحظة، على الرغم من أن هناك الكثير من المطلعين تغيرت سلوكهم الاتصالية فاتجهوا إلى شبكة الإنترنت لمعرفة الأخبار، مقابل انخفاض قراء الصحف الورقية، وبات الكثيرون يستخدمون المنصات الإلكترونية المختلفة ليشبعوا احتياجاتهم المعرفية والترفيهية، لكن تظل الصحف الورقية كوسيلة إعلامية لها دورها الكبير في حياة المجتمع، وهي بمثابة المطالعة الحقيقية وفيها المعلومة والمعرفة وإنارة العقل وليست الإثارة التي سرعان ما تنسى.

قضية شبكة النت لم يمح ولم يعزل قراء الصحف عن تناول الصحف والمجلات من تناول الصحيفة باليد لكي يستمتع القارئ بلذة الورقة ورائحة الطباعة، كما هو الحال بالنسبة للكتاب المطبوع وهو بين يديك وتضعه على صدرك حتى تخلد إلى النوم (وخير جليس في الزمان كتاب).

ففي مدينة عدن عاصمة جنوب اليمن عُرف عنها بأنها كانت مدينة التنوير في شبه الجزيرة العربية ومنذ بداية الأربعينيات من القرن الماضي شهدت ازدهارا في كافة مناحي الحياة السياسية والثقافية والفنية، ومما لا شك فيه أن الصحافة والإعلام كانت من أبرز علامات التنوير، حيث أفرزت تلك الحقبة أكثر من أربعين صحيفة ومجلة وقد تنوعت ما بين يومية وأسبوعية وشهرية ونصف شهرية، كما شهدت بداية الستينيات دخول صحف ومجلات عربية ومنها إنجليزية، بعد ذلك غابت كل الصحف التي كانت تصدر في عدن بعد استقلال الجنوب عام 1967م وصار استيراد الصحف والمجلات وحتى الكتب حكرًا على الدولة أبان فترة النظام الاشتراكي، فأصبح المسموح منها هو ما يتوافق مع الفكر والتوجه السائد آنذاك. وبعد إعلان الوحدة اليمنية بين شطري اليمن عام 1990م سُمح بصدور الصحف والمجلات، إذ بلغ عدد الإصدارات إلى عام 2000م أكثر من مائة وخمسون إصدارا متنوع من رسمي وحزبي وأهلي، وكان ذلك نتاج لحرية الصحافة الذي عليه قانون الصحافة رقم (25) لسنة 1990م، وقد تلاشت أغلب تلك الإصدارات لأسباب عديدة منها المشكلات والمعوقات والصعوبات التي تواجه الصحافة الورقية في عدن واليمن إجمالا.

أما اليوم في اليمن، وبعد مضي قرابة العقدين من انتشار الإنترنت ظهرت المواقع الإخبارية وعدد من الشبكات الإعلامية، التي كانت بدايتها يعود صدور أول نسخة إلكترونية في اليمن في عام 1997م هي صحيفة "يمن تايمز" وبعدها بعام واحد صحيفة "الأيام".

وفي ظل استمرار الحرب في اليمن يكفي التوقف أمام إحدى المكتبات والأكشاك في العاصمة عدن لمعرفة مدى المحنة التي تمر بها الصحافة الورقية، حيث كانت المكتبات والأكشاك تشهد إقبالا من محبي الاطلاع والقراءة، أما اليوم فهي غير موجودة، فمن بين أكثر من مئة صحيفة يومية وأسبوعية في عموم اليمن، لم تعد تصدر في العاصمة عدن سوى أربع صحف يومية وعدد مماثل أسبوعية، إذ تأثرت الصحافة الورقية تأثرًا كبيرًا نتيجة للأوضاع الاقتصادية واستمرار الحرب اليمنية التي تعيش عامها السادس، وكذا الصعوبات التي تعانيها المطابع، وتضييق للحريات في مناطق سيطرة الحوثيين في الشمال، كل هذا أدى إلى تلاشي الصحف الورقية وفتح الباب واسعًا لمواقع الصحافة الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي وتعدد القنوات الفضائية لتمثل دورًا مغايرًا ببث الأخبار التي يتم تداولها منها الزائفة والتي شكلت ضربة قاصمة للصحافة الورقية.

وبسبب تراجع المستوى الثقافي نجد أن قراء الصحف في وقتنا الحالي إما قراء كبار السن لا زالوا متمسكين بثقافتهم التقليدية، أو منهم من العمال وأصحاب المحلات الذين قدموا من خارج المحافظات الجنوبية، وهذا دليل مؤشر على تراجع المستوى الثقافي عند الكثيرين خاصة من شريحة الشباب.

أما ما يُقال بأن موضوع شبكات التواصل جاءت كبديل للصحف الورقية فهذه المقولة غير دقيقة إن لم نقل خاطئة، فإذا كان هؤلاء من فئة الشباب الذين يهجرون القراءة الورقية واتجهوا إلى الإنترنت، فقد تبين من خلال البحث بأنه لا توجد قراءة لا بالإنترنت ولا بالورقية وهذا ناتج عن مخرجات التعليم (الثانوي – الجامعي) المتدني، إلى جانب هناك عوامل متداخلة منها تدني الوضع المعيشي، فكثير منهم اتجه إلى السعي المضنى وراء لقمة العيش، لكن السبب الرئيس هو تدني التعليم، كما اختفت في كثير من المدارس المجلات الحائطية مثل الصحافة المدرسية وهذا دليل أخر بتدني المستوى الثقافي، كذلك المادة التي تقدمها الصحافة الورقية لا تجعل القارئ متحفزا للمعلومة التي يفتقر إليها، ولا نجد أيضًا في بلادنا صحافة متخصصة في مجال معين، فأغلب موادها تقليدية ومستهلكة كما أن طرحها في الأخبار السياسية تقدم بشكل دون المستوى.

فتراجع الإقبال من القراء على الصحف الورقية أحد أسبابه إلى جانب ما ذُكر انعدام التنوع في ما تقدمه الصحف إلى جانب ارتفاع كلفة طباعتها، ولهذا القارئ عندما لا يجد صحف متنوعة يمل في قراءة الصحف القليلة المتواجدة حاليا.

كما أن هناك مجموعة من الاستنتاجات أجريناها مع عدد من فئة من الشباب في عدن من الطلاب (الثانوي - الجامعي)، حيث وجدنا بأن 24 % من القراء من الشباب يقرؤون الأخبار من منصات شبكات التواصل الاجتماعي، وكذا نسبة مماثلة من الشباب يشاهدون الأخبار من القنوات الفضائية، وأن 50 % من الشباب يتابعون الإنترنت من جوالاتهم الذكية بغرض الترفيه والتسلية، إلا أن 2 % من الشباب فقط يقرؤون الصحف الورقية المطبوعة.

رصدت "الأيام" خلال تجوالها في عدد من المكتبات في عدن لاستطلاع آراء بعض من أصحاب المكتبات عن أسباب انحسار وتراجع الصحافة الورقية، حيث تبين من أحاديثهم بأنها متطابقة، فأغلب ملاك المكتبات أوضحوا "بأنه لم تعد ذا مردود من بيع الصحف في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية، وسببه ضعف هامش ربحها البسيط مقارنة بكثرة متاعبها في المتابعة والتحصيل مع الموزعين ". كما شكوا بأن الكثير يدخل إلى المكتبة ليقرأ العناوين ولا يشتري الصحيفة، مسببين في ذلك زحمة وضيق في المكتبة.

وعن المشكلات والمعوقات التي تواجه المطابع في عدن واليمن عامة منها كلفة الطباعة يقول نائب رئيس تحرير صحيفة "الأيام" باشراحيل هشام باشراحيل: "الطباعة الورقية منذ بداية الحرب وإلى الآن تضاعفت تكلفتها خمسة أضعاف، نظرًا لتدهور العملة من 215 إلى 950 ريال للدولار. فالصحف الورقية تعتمد على استيراد موادها الخام من الخارج؛ بل إن بعض الأخبار والأخبار الرياضية وبعض الصور يتم شراؤها من وكالات الأنباء العالمية. الطباعة من الأمور التي تضررت بسبب ارتفاع التكاليف مثل تكاليف استيراد قطع الغيار للمطابع والتي أصبحت بسبب الحظر يتم تهريبها عبر المنافذ الحدودية".

ويضيف باشراحيل: "ومن التكاليف المريعة للحرب أن التقنيين والموظفين العاملين في مجال المطابع تم الاستثمار في تدريبهم لكنهم هاجروا من البلاد، أيضًا الصحفيين المدربين تدريبًا عاليًا هم أيضًا غادروا البلاد، بينما بالمقابل وفَّرت وسائل التواصل الاجتماعي طريق قصير للشهرة لجيل جديد من الصحفيين من الشباب الذين لا يمتلكون أي خبرة وساهموا بشكل فاعل في تسميم البيئة الإعلامية في البلاد، بالإضافة إلى كلفة الورق هي أعلى كلفة لحسابات أي صحيفة، ويضاف إلى كل ما سبق تضاعف سعر الدولار خمس مرات منذ بداية الحرب إلى الآن. كما أن هناك عامل آخر وهو عدم قدرة البنك المركزي في فتح الاعتمادات للشركات المحلية ما منع المطابع من استيراد الورق بأسعاره الطبيعية من السوق العالمي، فتضطر المطابع إلى شراء الورق المهرب إلى داخل البلاد بثلاثة أضعاف سعره في السوق الدولي.. لذلك المطابع تواجه ضربتين من ارتفاع سعر الورق بسبب انهيار العملة وغلاء السعر في السوق المحلي".

ناصر بحاح
ناصر بحاح
فيما اعتبر الإعلامي والأديب ناصر بحاح، وجود الصحافة الإلكترونية التي تبني أساسها اليوم على حساب الصحافة الورقية بالقول: "في عالم يضج بتدفق غير مسبوق بالمعلومات، عالم أصبح في متناوله الجميع، وبسرعة تفوق سرعة البرق، أصبح من المقطوع به أن تشهد الصحافة الورقية تراجعًا ملحوظًا في الإقبال عليها واتخاذها كما كانت من قبل ظهور شبكة المعلومات العنكبوتية مصدرًا للمعلومات، ونافذة للمعرفة ومسرحًا لصياغة وإعادة صياغة وبلورة الرأي العام الجمعي تجاه هذه أو تلك من القضايا محل الاهتمام العام، تجاه هذه أو تلك من القضايا الراهنة اليومية والمستقبل المأمول!.. الإنترنت هو بلا جدال أحد أهم الأسباب التي أدت وتؤدي إلى تراجع الإقبال على قراءة الصحافة الورقية في الوقت الراهن، فصحف اليوم أصبحت تصدر بنسختين ورقية وإلكترونية، لكن مع كل ذلك، تبقى الغلبة لوسائط الاتصال الحديثة المتمثلة في (الإنترنت) بنوافذه المختلفة، وتجلياته المتنوعة".

ويتابع: "وحيث تنعدم الرقابة بكل أنواعها عن حجب أي شيء عن النشر عبر هذه الوسائط إلا فيما ندر، ويصبح من الصعوبة بمكان القول بإعادة بوصلة الاتجاه القرائي، صوب الصحافة الورقية، وفي مدينة (عدن) عرفت الصحافة الورقية قبل غيرها من المدن والأقطار العربية وكانت سبَّاقة عليها بزمن طويل، أضحت الصحافة الورقية اليوم أقل رواجا والأقل إقبالًا، وما يُقال عن الصحافة الورقية وتراجعها هو نفسه ما ينطبق على العزوف الملحوظ عن قراءة الكتب بالقدر الذي كانت عليه قبل ظهور (الإنترنت)، فعدد قراء الكتب الآن في تراجع مستمر باستثناء الكتب الجامعية وفي حالات محددة لا غير!!".

يضع الإعلامي بحاح، حلولًا ومعالجات لاستمرار الصحافة الورقية بالقول: "على أن الحل لمثل هكذا إشكال، أراه متمثلًا بالنسبة للصحافة الورقية في إيلاء مزيد من العناية الحقيقية المباشرة بالقضايا الحيوية التي تمس حياة الناس في المدينة بشكل حيوي ودعوتهم للمشاركة في إبداء آراءهم بشأنها بحيث يصبح القارئ شريكًا حقيقًا في صنع ووضع التصورات والآراء والمقترحات فيما يتصل باحتياجاته الملحة والعاجلة. إعطاء مساحة أوسع للناس في الحديث بحرية أكبر عن وجهات نظرهم وخاصة السياسية دون إملاء أو تدخل أو إيعاز أو إرضاء لهذه أو تلك من الجهات الصادرة عنها هذه المطبوعة الصحفية أو تلك. العناية الحقة بقطاعي الشباب والمرأة والاهتمام بشؤونهم وإعطاؤهم حقهم المناسب من الجهد الصحفي المهني المسؤول في الصحافة الورقية علها تستطيع إن هي ألزمت بما تقدم تستعيد شيئا من بريقها وألقها وانتشارها الذي آل الآن إلى انحسار ".

نبيل أنعم
نبيل أنعم
المحتوى المتميز هو عامل رئيس مشترك بين صناعتي النشر الورقي والإلكتروني، هذا ما يؤكده التربوي المتقاعد نبيل أنعم: "قلّ القراء للصحف والمجلات وخلافه نتيجة الحالة الاقتصادية والمعاناة وعدم وجود المواضيع الهادفة في أكثر من صحيفة، فالصحيفة تمثل الإنارة وليس الإثارة، على الرغم من وجود شبكة النت وهو بمثابة عالم بين يديك وبلمسة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل كل واحد يدخل هذه الوسيلة الحضارية من أجل أن يقرأ أو يبحث ليحصل على المعرفة في معلومة معينة، مع كل حبي واحترامي الشديد لكل إنسان في هذا الوجود وخصوصا الشباب الذين عزفوا عن القراءة والاطلاع، ولكن أصبحت وسيلة للتسلية لا أكثر ولا أقل".

ويتابع حديثه: "قلّ القراء.. أي نعم!؟.. لأن عصر السرعة في كل شيء، والإنسان يحب أن لا يتعب، ويريد المعلومة جاهزة، لا يشغل فكره وجوارحه، بحيث أنه يعيش مع المواضيع ويشارك في تفكيرها وتحليلها، الصحف علمتنا منذ القرن التاسع عشر والقرن العشرين، علمتنا وعرفتنا بكثير من الكتّاب والمفكرين ذوي الأقلام النزيهة، ولا يزال حتى اليوم من يكتب بصدق. أتمنى أن يقرأ الإنسان ما ينفعه ويبحث عن المحتوى والتميز أكانت ورقية أم من شبكة النت، فالقراءة لمدة ساعة واحدة في اليوم تبعدك من مرض الزهايمر ".

سحر مهيوبي
سحر مهيوبي
وحول أسباب انحسار الصحافة الورقية، تقول أستاذة قسم الصحافة والإعلام بجامعة عدن سحر مهيوبي: "هناك أسباب عديدة لانحسار الصحافة الورقية في بلادنا، أهمها الحرب الحالية، حيث لا يسمح أيا من أطراف الصراع توزيع الصحف أو المجلات الصادرة من الطرف الآخر في منطقة سيطرته، ناهيك عن أسباب اقتصادية أهمها تكلفة سعر الورق وضعف الكهرباء واستبدالها بالمولدات التي تحتاج للوقود. إلى جانب سبب أخر وهو الإعلانات، فالمعلن اليوم يبحث عن الإعلان الأقل تكلفة وقد يدعم الصحف التي تتوافق مع توجهه".

وتضيف مهيوبي: "أيضا هناك أسباب أخرى متصلة بحالة المواطن المادية والذي قد تؤدي قرار شراءه للصحيفة. كما نجد عشوائية المواقع الإخبارية. أيضا تتحمل بعض الصحف سبب انحسارها إما ناتج عن خطابها الذي يحمل الكراهية أو عدم التجديد بتقديم المضمون أو عدم التزامها بالمصداقية".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى