اليمن واللحوح والطريق الثالث

> كما اعتاد اليمني على حالة التململ من وطنه جراء انتكاساته المتوالية وحالاته المرضية التي لا يكاد يتعافى من إحداها حتى تتلقفه الأخرى، فإن اليمني يعتاد أيضًا -بطريقة أو بأخرى- على حفظ وطنه في داخله حتى دون أن يشعر هو نفسه بذلك.
يعرف اليمنيون، بفطرتهم، كيف يتسببون بالمشاكل داخل قواعدهم، لكنهم لا يعرفون كيف يسلكون الطريق نحو حلها، إلا من خلال البحث عن وسائل للهروب منها نحو الأمام، بعد رميهم لها وراء ظهورهم، لتنمو أو تندثر، متأثرة بعوامل التعرية السياسية اللعينة، وإحدى تلك الوسائل: مغادرة وطنهم ببساطة.

في مصر "المحروسة" يجلس طفٌل يمني صغير السن كبير الهمة ليبيع (اللحوح) على قارعة أحد الشوارع مناديًا الناس للإقبال عليه حافظًا ومرددًا بعفوية اسم وطنه "اليمن" في وطن بديل يشعر بأنه قد بات وطنه بالفعل لأسباب عديدة ليس آخرها قرار جمهورية مصر العربية دخول اليمنيين إلى أراضيها دون أعباء مالية إضافية كما يحدث للجنسيات الأخرى، وذلك لمعرفة القيادة المصرية الحكيمة بأن اليمني لم يعد يمتلك من وجهة وواجهة يحتمي ويحمي من يحب فيها سواًء صحيًا أو معيشيًا سوى مصر التي تغدو أكبر وأغزر من أن تبدو مجرد اسم في خاطر اليمني أو في فمه وهو يتردد عليها ويرددها ليشعر بمزيد من الطمأنينة والأمان المفقود في وطنه الذي يغدو يومًا بعد آخر محدود الخيارات معيشيًا وصحيًا وأمنيًا.

يعرف اليمنيون كيف يطرقون باب الرزق تحت الضغط ولا ضغط أكبر من ضغط اليمن على مواطنيها لجعلهم أمام طريقين لا ثالث لهما: إما الحياة في ظروف جميعها تُهادن الموت أو الموت بطريقة باردة وبصمت واستسلام تام.

غادر أهل الطفل اليمن وسلكوا طريقًا ثالثًا وجدوه متاحًا معتمدين على ما تبقى من اليمن في إحدى أكثر المناطق المزدحمة باليمنيين في القاهرة العامرة، وهي منطقة "فيصل" واختاروا لإعانتهم في قرارهم بسلوك الطريق الثالث أحد الموروثات الغذائية التاريخية التي اشتهرت فيها سلة اليمن الغذائية منذ قديم الزمن، وهي عبارة عن أقراص دائرية رقيقة من الخبز تساعد على إشباع الجوع وتصبح وجبة غذائية مكتملة بإضافة اللبن عليها "الزبادي" لبيعها لليمنيين الذين يسكنون مصر وتسكنهم وليساعد بعضهم بعضًا على الاستمرار في العيش دون السؤال عن مكان ومحل ميلاد هذا الطفل، ودونما الحاجة لإحراق مكان تكسبه الذي يقف عليه مناديًا باسم وطنه الحاضر بكثافة حيثما يقف طفل اللحوح الصغير بأحلامه المحدودة التي تكبر في أرض بعيدة عن أرض وطنه التي يكتسحها الموت بصور وشعارات متعددة تتقدمها شعارات الحب والحرص واستعادة الأرض وعودة عجلة التاريخ للسنة الأولى الهجرية والكراهية والحقد على كل ما هو وطني ويدعو لما فيه مصلحة لجميع مواطني هذا الوطن الباحث أيضًا عن "طريٍق ثالث" ليصبح طبيعيًا كسائر البلدان على طريقة الطفل الذي ظهر في فيديو قصير بعثه لي أحد كبار الداعمين لي في مسيرتي ككاتب رأي منذ بدأت الكتابة، وهو ينادي: لحوح لحوح.. لحوح من اليمن! دون أن يبدي تعليقًا بكلمة على ما أرسله لي لعلمه بأن الطفل الذي سلك الطريق الثالث على صغر يبدو عظيم الحيلة وكبيرًا كفاية لينال التقدير والتحية والتعاطف لإكمال حياته خارج وطنه بسلام بالنظر إلى حالة وطنه الحالية التي جعلها "كبار السن" قليلو الحيلة والتأثير دون حاضٍر وبالتالي بلا مستقبل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى