الشاي المُلَبّن والذكريات بالمقهاية

> ما أروعها بلدنا الجميلة، ففيها بكل ركن، وكل حافة، وكل شارع ذكرياته الأليمة، وذكرياته الجميلة وما أكثرها؛ ولكنها قديمة حيث يتذكرها كل من عاشها لينقلها للجيل الذي بعده، وهكذا هي الحياة جيل بعد جيل يتناقل ذكرياته، وكذلك تسرد هذه الذكريات في المجلات والصحف، ومنها لأهميتها وارتباطها بحدث تاريخي مهم فإنها تُدرَّس بالمدارس أو الجامعات، ولكن لن يتم تناقلها بين الأجيال، فالمجلات والصحف بانتهاء العدد الذي قرأه عدد محدود من الناس، فيما عدا القليل ممن قرأ هذه الذكريات واحتفظ بهذه الصفحات، وكل فترة وأخرى يتذكرها عند أصدقائه الذين يملون من كثرة تكرارها، والتي تدرس تنتهي بانتهاء العام الدراسي، إلا بعض الطلاب يحفظون بعضًا منها، وحتى نكون منصفين فإن هذه الذكريات لا يمكن أن تنتهي، بل تتجدد كل يوم، ولا يمل من سماعها بكل لحظة؛ لأن طريقة إلقائها وطرحها يكون في جو من المرح وراحة البال بين مجموعة من الأصدقاء، ويكون بجانبهم أُناس آخرون يستمتعون بسماعها، ومنهم من يشارك بذكرياته دون أي حواجز.

وكل ذلك يتم في ساحة بسيطة أمام محل لبيع الشاي، وليس أي شاي؛ بل الشاي المُلَبّن، فهذا المحل هو مدرسة البسطاء المسمى"مقهاية"، والذي تجد به الدكتور والمدرس والعامل والجندي والطالب والمتقاعد من جميع أصناف المجتمع، وما يجمعهم هو البساطة وطريقة تحدثهم مع بعضهم البعض، تروى الذكريات، وتناقش بعض المعلومات، وتفسر بعض الأحداث، وهذه المقهاية لها وقت لتجمع كل أطياف الشعب، وهذا الوقت هو من بعد المغرب، حيث يجلسون يرتشفون من أكواب الشاي المُلبّن، وعقولهم تفكر بحدث هنا، وحدث هناك، وموضوع ما لهذا أو لذاك، ولكن لابد أن تسمع أحدهم – ودائمًا - يكون كبير في السن يتحدث وهو يرتشف من ذاك الكوب ليطعم روعته، وتخرج الفكرة التي أطلق حنجرته لتذكرها، ويسمعها الجميع، فبهذه اللحظة لن تجد صوت يعلو فوق صوت هذا الرجل الكبير، ليتحول التركيز عليه، وهو ينثر ذكرياته التي لن ينساها كل من سمعها؛ لأنها خرجت من بساطة صاحبها ووصلت إلى بساطة متلقيها، هنا وبعد فترة من الزمن ستسمع هذه الذكريات تروى من أناس آخرين بلسان هذا الرجل الكبير في السن، فالجلوس بالمقهاية هو ترويح عن النفس؛ لأنك ممكن ترى من يقرأ كتاب، ومن يدندن ويغني، ومن يقول الفكاهة، وهكذا هي حياة من يجلس بالمقهاية؛ ولكننا اليوم سنعلن عن فقداننا لسرد ذكرياتنا، والتي كانت المقهاية هي المكان الجميل الذي نتداولها فيه؛ بسبب عدم جلوسنا على كراسيها لارتفاع سعر قلص الشاي المُلبّن، وصغر حجمه الذي لن يستطيع المواطن البسيط في تحمل تكاليفه، والتي أصبحت قيمته تعادل قيمة وجبة فاصوليا، فهذا الأمر سيؤدي إلى أن المقهاية ستصبح كراسي من دون شخوص البسطاء، الذين اعتادوا على الجلوس في أماكنهم المحددة كل يوم، التي تعودوا عليها، والتي كانت بالنسبة لهم موقع الذكريات، ولكن ارتفاع الأسعار، وغياب الرقابة، وعدم وجود دخل يتناسب مع هذا الارتفاع الجنوني بكل مناحي الحياة، أدى إلى أن تصبح المقهاية خاوية على عروشها، لعدم قدرة الناس سداد قيمة قلص الشاي المُلبّن، فهنا ترفع اللوحات، وتؤكد الكلمات، بأن الذكريات لن تذكر بعد اليوم؛ لأن شُرب الشاي المُلَبّن بالمقهاية أصبح من الأمور التي تحتاج إلى عمل خطة وميزانية، وربما عمل "هكبة" لنتمكن من التجمع بكراسي المقهاية التي تعودنا عليها، لنتذكر ما عشناه في زمن نتمنى عودته، ولو تطبق علينا الرسوم لنعيشه من جديد، ولا أن نعيش في زمن لا نستطيع شُرب قلص الشاي المُلَبّن بالمقهاية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى