"ترويسة العميد"

> سألني صديقي الذي ألتقي به بشكل يومي تقريباً في جلسات القات، وهو من المواظبين على شراء صحيفة "الأيام"، بعد أن لاحظ أنني غالباً ما أعيد له الصحيفة بعد فترة زمنية لا تتعدى الخمس الدقائق ابتدأها بقراءة ترويسة من أقوال العميد، ومن ثم العناوين في الصفحة وعناوين الصفحة الأخيرة، ثم أعيدها له.

أقول: سألني لمَ الاستعجال بإعادة صحيفته إليه؟ فقلت له إنني أحدد ما يستحق القراءة، ومن ثم أقرأ ما أريده إلكترونياً في المنزل، لكنني أستثني ترويسة العميد التي أقرأها ورقياً، فقال: لكن ما تحمله الترويسة قد كتب قبل عشرات السنين، فقلت له: إن الترويسة هي المرآة التي تعكس واقعنا السياسي اليومي، وأن الاختيار للمضمون الذي تحمله الترويسة هو عمل عظيم ودليل على المهنية العالية التي يتمتع بها من يقوم بالاختيار، مع أنني لا أعرف من يقوم بذلك.

تقول العرب: الحديث ذو شجون، أي أن الحديث يمكن أن يتفرع إلى فروع عدة ترتبط بالموضوع الرئيس سواءً أكان الحديث مسموعاً أو مكتوباً.
تتداخل الهموم والأفكار بعضها ببعض في لحظات الكتابة عند الكثيرين، ويستثنى من ذلك الكبار بأفكارهم وأقلامهم، وهم قلة نادرة سواء في بلادنا أو في كل بقاع الدنيا.

فهؤلاء حين يكتبون لا يوصّفون حدثاً، أو يسردون سلسلة الأحداث للقارئ كما حدثت، أو كما هي عليه فقط إسقاطاً لواجب إيصال المعلومة إلى القارئ، بل هم يكتبون بعمق معرفي وإدراكي لمسببات الحدث سواءً أكانت اجتماعية أو سياسية أو تاريخية. هؤلاء الكبار من حملة الأقلام (وليس الكتبة) يشخصون الحدث بأبعاده التي سبق ذكرها، وهم بذلك يمنحون ما يكتبونه المصداقية والقيمة المعرفية، ولذلك حين يكتبون، يكتبون تاريخ مجتمعهم بتجرد علمي ومعرفي، فينفخون الروح فيما يكتبونه، فيبقى المكتوب حياً في كل العصور والمراحل.

لذلك، فهؤلاء القلة من الكتاب من وزن عميد "الأيام" يوجهون خطابهم للأجيال وليس كل الأجيال، بل للنخب التي تستطيع أن تقرأ بعمق ما بين السطور، وبصفتي أحد (المخربشين بالكتابة) الذين يحاولون أن يكتبوا ما يرونه ويعتقدون في صوابيته، أجدني أطرح على نفسي سؤالاً مفاده ما قيمة ما نكتبه إن كان ما نكتبه لا يحمل تلك المضامين؟، وإن كان ما نكتبه لا يوجد له صدى في آذان من يمكن تسميتهم بالقيادات السياسية وغير السياسية ممن يتحملون مسؤولية قيادة الأمة، فإننا أشبه ما يكون بمن يجري حواراً أو حديثاً مع شخص أبكم وأخرس في نفس الوقت.

درس آخر تعلمته من ترويسة العميد، وهو أن الكثير من مشاكلنا لا تزال قائمة منذ عشرات السنوات، ولم تتم معالجتها منذ أن كتب عنها العميد قبل عقود من الزمن، والدليل على ذلك أن تلك المشاكل لا تزال تعيش معنا، وتنزل بنا معاناة تشتد مع كل يوم. وهذا يجرنا إلى إعادة تقييمنا لواقعنا والمعضلات التي تفتك بنا، وإلى إعادة النظر في النوع القيادي البشري الذي يقودنا.

نحن بحاجة ماسة لإعادة اختيار قياداتنا، بناءً على المعايير العلمية والوطنية، مع تحلي تلك القيادات بالشجاعة الأدبية والأخلاقية، التي يفترض أن تكون لديهم أثناء أدائهم لواجبهم الوطني والأخلاقي في قيادة هذه الأمة التي أُنهكت أيّما إنهاك، بفعل السياسات الرعناء في مختلف جوانب حياتنا التي لا أدري إن كانت تسمى حياة أو معيشة فقط، وبين الحياة والمعيشة فروقات لا تخفى على الفطين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى