الموت البطيء يجتاح عامة الشعب ويجمد البسطاء

> عدن «الأيام» عبدالقادر باراس:

>
  • الدخول في المجاعة وشيك في ظل تدهور مريع للمعيشة..
  • افتقار الحكومة لموازنة واقعية وسياسة مجدية أفقر البلاد
  • تكاليف المعيشة ارتفعت 400% خلال الـ6 سنوات الأخيرة
  • البنك الدولي: اليمن من بين أكثر بلدان العالم معاناة للجوع
عند وصف أحوالنا نتذكر قول الفيلسوف اليوناني ابيقور، حينما قال: "ممارسة العيش وممارسة الاحتضار هما نفس الشيء".. تبدو المقولة مشابهة للأوضاع الحالية في اليمن في ظل انهيار اقتصادي شامل، ومؤشرات حدوث مجاعة كارثية، والتي بدأت تتشكل تباعاتها في نفسية المواطن البسيط، ولعل أقسى ما سمعته في ذلك هو قول شيخ سبعيني، "يا ابني صرت أحسد الميتين".. حقاً أنه الموت البطيء الذي يجتاح حياة البسطاء بين قساوة الواقع وألم قلة الحيلة.

أصبح المواطن يهم قرص "الخبز - العيش" وحبة البيض، وعلبة الفاصوليا، في ظل تدهور مريع ومخيف للأوضاع المعيشية وتردي الخدمات الضرورية في إطار تلاشي وظائف الدولة التي أصبح فسادها مصيبة على الوطن والمواطن.
كان الوضع المعيشي قبل الحرب سيئاً بشكل عام نتيجة هشاشة السياسات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة، فبقيت الأسعار غير مستقرة والبطالة متفشية والفقر في تصاعد، وازداد الوضع أكثر سوءاً بعد الحرب، حيث تغير نمط حياة المواطن بسبب استشراء الفساد، وانعكس سلباً على نفسيته وتآكل أحلامه وتفاؤله نحو التغيير للأفضل، كما تغيرت فيها تركيبة المجتمع، واقتصرت على فئتين أحدهما غنية وتتمثل بالتجار ومسؤولين حكوميين ومغتربين، والفئة الثانية هي من غالبية المواطنين أصبحوا أكثر فقراً، وبالتالي لم تعد حتى عملية زيادة الرواتب تجدي نفعاً في ظل استمرار تردي الأوضاع المعيشية سوءاً، مما يضطر الكثير منهم إلى البحث عن وظيفة أخرى وألّا يعتمد على راتب الوظيفة الحكومية باعتباره لديه التزامات ومصاريف أسرية.

وتفاقمت معاناة غالبية الأسر وزاد من معدلات فقرهم ارتفاع تكاليف معيشتهم، إذا ما تم قياسها في الست السنوات الحالية مقارنةً بسنوات ما قبل الحرب في العام 2015م، فإن الارتفاع زاد أكثر من 400 %، وخسر الريال اليمني قيمته أربعة أضعاف من قيمته ما قبل الحرب.
لم يكن المواطن البسيط يتوقع يوماً أن يتدهور وضعه المعيشي إلى ما هو عليه الآن من تردٍ، فمنذ بداية تدهور سعر صرف العملة المحلية (الريال) بعد الحرب في عدن والمناطق المحررة أمام العملات الأجنبية وخاصة الدولار والريال السعودي، كان يعتقد بأن الأمور لن تتجاوز أن يكون سعر الدولار مقابل الريال اليمني أكثر من 400 ريال، وكان في اعتقاده أن هذا هو السقف الذي لن تسمح  الحكومة حينها بتجاوزه، وأن دول التحالف ستكون رافعة مالية لوقف نزيف سعر صرف عملته المحلية باعتبار التحالف هو المسؤول الأول والأخير.

لا مجال للتفاؤل
لم يكن بالإمكان تصديق أن معاش طيار حربي متقاعد استشهد في حرب صيف 94 لا يتجاوز (55000) خمسة وخمسين ألف ريال يمني، لم ينصف هؤلاء الذين أفنوا حياتهم في وجه النار دون تردد ليبقوا سماء وطنهم آمنة، ويحز في النفس أن نرى اليوم من البدع، أن هناك قادة وعسكريين بمسميات وحداتهم العسكرية المختلفة ممن تصل نثرياتهم الشهرية (وليس مرتباتهم) إلى نحو خمسة آلاف ريال سعودي، أي ما يصل إلى نحو مليون وثلاثمائة ألف ريال يمني، أي ما يعادل المعاش التقاعدي لثلاثة وعشرين طياراً لم يكونوا يعلمون يوماً أن هذا ما سيكون عليه حال أسرهم من بعدهم.

إن المتابع للأوضاع المعيشية الحالية خاصة في عدن لا يخرج بانطباع يدعوه إلى التفاؤل، فمظاهر الحرب لا تزال قائمة، في ظل التدهور الاقتصادي السريع المثير للقلق أوشك دخول البلد إلى المجاعة، حيث تسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية بمعاناة الملايين، وضعف قدرتهم على شراء ما يكفي من الغذاء، وبحسب تقرير نشره البنك الدولي مؤخراً، فإن 70 % من اليمنيين يواجهون خطر الجوع في بلد يُعد بالفعل من بين أكثر بلدان العالم معاناة من انعدام الأمن الغذائي بسبب الصراع الدائر منذ ستة أعوام.

بقي موقف الحكومة المعترف بها دولياً من جراء التدهور المستمر للوضع المعيشي وانهيار العملة في الفترة الأخيرة هو موقف المتفرج، حيث لم تضع أي من الإجراءات والتدابير الهادفة إلى وضع حلول لوقف التدهور والحفاظ على أسعار صرف العملة الوطنية باعتبار أن الوضع المعيشي للمواطنين هو من أولوياتها ومهامها، لكنها اعتبرت انهيار العملة أزمة مفتعلة جراء المضاربات وبث الإشاعات والتأثير على السوق النقدية.
متقاعدون مسنون محتجون يفترشون على الشارع الرئيسي بكريتر احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية
متقاعدون مسنون محتجون يفترشون على الشارع الرئيسي بكريتر احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية

سوء الإدارة والسياسة العقيمة للحكومة دفعت الاقتصاد للهاوية
ولإيجاد حل للمشكلات الاقتصادية التي تعانيها اليمن، لخصت الخبيرة المالية، رئيس المنتدى الاقتصادي للتنمية المستدامة، د. مناهل عبدالرحمن ثابت، في منشور لها على حسابها في "فيسبوك"، أن المشكلات الرئيسية للاقتصاد اليمني هيكلية تاريخية وزادت تعقيداتها مع استمرار الحرب، ولخصتها في ثلاث مكونات وهي الناتج المحلي الإجمالي، الميزانية العامة وميزان المدفوعات.

موضحة: "المشكلة تدني الاحتياطات الخارجية من العملات الصعبة إلى مستويات حرجة والعجز الملحوظ في إعادة بنائها في ظل تراجع متحصلات البلد من النقد الأجنبي وسوء الإدارة الحكومية للموارد وانتهاج سياسة عقيمة في إدارة السياسة النقدية والمالية، أدت إلى أن يشهد الاقتصاد اليمني تدهوراً متسارعاً في سعر العملة الوطنية (الريال)، فسوء إدارة الموارد وافتقاد الحكومة لموازنة مالية واقعية وغياب سياسة مالية ونقدية منسجمة، كل ذلك كان سبباً في تدهور سعر صرف الريال".

وطالبت الباحثة مناهل، بإعادة النظر في أداء الحكومة الاقتصادي وتعزيز استقلالية البنك المركزي، بحيث تكون للدولة موازنة عامة واقعية، وتحصيل الموارد العامة للدولة وتوريدها لحساب عام الحكومة في البنك المركزي ووضع برنامج فعال لإنعاش وتعافي الاقتصاد اليمني والسعي الحثيث للحصول على موارد خارجية تدعم مباشرة الموازنة العامة وميزان المدفوعات، ويكون متزامناً مع حلول جادة لإدارة الموارد وحسن توظيفها، فالتخبط الحاصل الآن يدل على سذاجة واستهتار مالي غير مسبوق وأقوى انحداراً من انحدار العملة نفسها.
الحاج سعيد صالح وهو بانتظار صرف راتبه بجانب بنك الكريمي
الحاج سعيد صالح وهو بانتظار صرف راتبه بجانب بنك الكريمي

"لا علاقة لغلاء الأسعار بالدولار.. احتيال"
 وعن علاقة ارتفاع الأسعار بالدولار، تساءل د. جمال الشيخ، الذي يعمل طبيباً في مستشفى الجمهورية العام بعدن: "هل ارتفاع الأسعار الجنوني له علاقة بصرف الدولار؟ أم أنها قرارات تجارية جائرة للزيادة السريعة والصاروخية في الأرباح؟، لنأخذ مثلاً، الدولار قبل أكثر من ثلاثين سنة كان صرفه في عدن بـ 7 شلنات".

وأوضح: "ماذا يمكنك أن تشتري بهذا المبلغ؟ كنا نشتري الخضار بكل أنواعه بمبلغ لا يتجاوز 3 شلنات، وأفضل سمك كنا نأخذ الكيلو بـ 2 شلن ربع دولار، وسعر كيلو اللحم البلدي بـ 8 شلنات أي دولار وربع، فيما كنا نشتري المواد الغذائية لشهر بحوالي 70 شلناً أي 10 دولارات".

وبيّن بأمثلة بسيطة وتقريبية بحسب قوله، إن الأسعار ليس لها علاقة بالدولار وصرفه، وإنما بجهة تجارية أو غير تجارية ترفع وتلعب بالأسعار كيفما تريد وبجشع لا يقف ضده أحد، حيث الأسعار ترتفع باستمرار، حتى من قبل طباعة العملة على المكشوف هناك فساد وتلاعب حرب.
وحول كيفية تدبير المواطن لأمور معيشته اليومية، يقول نصر أحمد من عدن، الحقيقة الأسعار أكلت الأخضر واليابس ولم يتبقِ شيئاً، فأبسط الاحتياجات تشهد ارتفاعاً باستمرار فاق تصوره، وعليه يتساءل نصر متخوفاً من القادم المجهول، كيف سيدبر أمره، ويرى أن لهذا الارتفاع الجنوني المستمر للأسعار، مخاطر تهدد معيشته وتفرض الخناق عليه، فيقول: "أعمل في القطاع الخاص وكنت أتقاضى راتبي 80 ألف ريال يمني قبل ستة أعوام، وكان يكفيني قبل تدهور الأوضاع والحرب، أما الآن أتقاضى 120 ألف ريال يمني، ولا تكفيني، حيث إن سكني إيجار".
ويأمل نصر زيادة في رفع الرواتب، بحيث يستطيع مواكبة متطلبات الحياة المعيشية مع أسرته، إلا أنه يدرك مسبقاً لو حدثت زيادة في الرواتب، فإن كثيراً من التجار كعادتهم سيرفعون أسعار بضائعهم.

نموذج مأساوي
وفي تقريرنا أشركت أسرة مواطن بسيط من عدن مكونة من خمسة (الأب والأم وثلاثة أولاد) متوسط دخله ما بين 60 إلى 70 ألف ريال يمني، أي بما يعادل صرف اليوم بين 60 و70 دولاراً)والكثير من أمثاله يعانون من شظف العيش واعتمادهم على مصدر دخل واحد ومحدود.
نجد أن دخله يكاد لا يلبي احتياجاته الضرورية من المواد الغذائية الأساسية مثل الأرز والطحين والزيت والخضار (دون الفواكه والألبان ومواد التنظيف والغسيل) وفي تقديرنا يحتاج لعشرين قرص خبز – روتي، لوجبتي الإفطار والعشاء يومياً دون وجبة الغذاء، ناهيك عن أجرة المواصلات للذهاب إلى مقر عمله، وكذا حاجة أولاده الثلاثة لمصاريف يومية لتنقلهم إلى مدارسهم.

كثير من الأسر قامت بإخراج أولادها من المدارس، لأنها لم تستطع الإيفاء بمصاريفهم في المدارس.
وهناك أسر لديها التزامات بسداد قيمة إيجار سكنها، ولا تضع إمكانية لرب الأسرة بتوفير ادخار، حيث لم يعد له وجود عند كثير من الأسر في ظل استمرار تدهور وضع المعيشة، وهذا الوضع خلق ضغوطاً نفسية على الأسر، كما لم نذكر الحالات المفاجئة التي قد تتكبدها الأسرة من ميزانيتها مثل حدوث مرض مفاجئ أو تقديم الهدايا في المناسبات والأعراس أو حصول إعطاب لأجهزة المنزل الذي تمتلكه الأسرة أو إجراء ترميمات منزلية مثل الطلاء أو تغيير ستائر أو فرش منزلها، علماً بأننا لم ندخل في الحساب الشهري لتعاطي المكيفات مثل السيجارة والقات.

فرب الأسرة حتى يفي بالتزاماته، عليه أن يعّود نفسه وأفراد أسرته أن لا يأكل الواحد منهم إلا النصف تقريباً مما كان عليه كي يطابق صرفياته مع ما يتقاضاه من راتب شهري، كذلك هناك الكثير من الأسر تعيش في منزل صغير مكون من غرفتين، وأحياناً تجد أكثر من عائلتين، وهذا الوضع يكشف لنا وجود مأساة متفاقمة يعيشها المجتمع.

"كأني أعيل أربع أسر بدلاً من واحدة"
أحد أساتذة جامعة عدن تحفظ عن ذكر اسمه، تحدث لـ "الأيام" عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية قائلاً: "بمقارنة حسابية بسيطة أصبح راتبي كأكاديمي يحمل شهادة الدكتوراه في جامعة عدن، والذي كان قبل الحرب وأثناءه يعادل نحو ألف دولار، أصبح الآن لا يتعدى مائتين وأربعين دولاراً، أي أني أصبحت أعيش الآن بربع القوة الشرائية للعملة المحلية التي أستلم بها راتبي، ويعني أيضاً أنني أصبحت أعيش بربع احتياجاتي التي كانت في الأصل لا تتجاوز الغذاء والعلاج والمسكن والتعليم لابني الوحيد الذي فكرت كثيراً قبل التفكير بأن يكون له أخ في ظل هذه الأوضاع، ويوجد في علم السكان ما يعرف بـ (نسبة الإعالة) ومعناها كم هي نسبة الموظفين والعمال من ذوي الراتب نسبة إلى السكان الذين يعتمدون في معيشتهم على هؤلاء الموظفين من أفراد أسرهم. وعلى هذا، فإن نسبة الإعالة بالنسبة لي كانت واحداً إلى اثنين باعتبار أني موظف وأعيل زوجتي وابني الوحيد، وعلى سعر الصرف الحالي (ألف ريال يساوي دولاراً واحداً فقط)، والذي تضاعف 4 مرات، فأني أصبحت كمن يعيل أربع أسر وكل أسرة مكونة من زوجة وابن، فأصبح الوضع الاقتصادي والمعيشي لا يطاق بالنسبة لي، علماً بأني لم أتعاطَ القات مطلقاً في حياتي كلها كما أنني أيضاً لا أدخن".

وأوضح: "راتبي الآن كأستاذ جامعي مائتين وأربعين ألف ريال يمني، وهو يعد من الرواتب العالية في اليمن بالنسبة لموظفي الدولة، فبالتالي أنا أستحي أن أتحاور في هذا الموضوع مع موظف من ذوي الرواتب المتدنية، أو مع من يعتمدون على رواتب التقاعد والمعاشات والتي لا تتجاوز في بعض الأحيان سبعة وعشرين ألف ريال يمني، فقبل حوالي ثلاثة أيام اشتريت علبتي حليب (دانو) بقيمة سبعة وعشرين ألف ريال بالضبط، فهل من المعقول أن تكون القوة الشرائية لراتب هذا الموظف أو المتقاعد فقط لتوفير علبتي حليب، وأن أشترى علبتي الحليب، فكيف سأعيش بقية أيام الشهر؟، وإذا لم أشتره فهل يعني هذا أن يمتنع أبنائي عن شرب الحليب ما تبقى من عمرهم؟، وحتى إن امتنعوا عن شرب الحليب فهل سيتمكن والدهم من الإنفاق على أسرة كاملة بهذا الراتب؟".

وأردف: "والطامة الكبرى هي أنى لا أعرف سبباً وجيهاً ولا مقنعاً يجعلني أتقبل فكرة استلام مسؤولي الدولة من وزراء وأعضاء مجلس نواب وشورى وسفراء وموظفي السفارات لرواتبهم بالدولار، وكان من الأحرى والعدل أن يتم تحويل رواتبهم من العملة المحلية إلى الدولار بسعر الصرف السائد، ومن ثم تسليمها لهم، حينها أعتقد بأن جميع هؤلاء (المسؤولين) أول من سيعمل على تثبيت أسعار الصرف".

وأضاف: "ويمكن لنا جميعاً أن نستوعب ونتفهم أن هذه ظروف حرب استثنائية ولها تبعاتها الاقتصادية المختلفة، وذلك فقط في حال أصبحنا الجميع سواء من مسؤولين بكافة وظائفهم وكبار العسكريين بكافة مناصبهم نعيش وننفق على أبنائنا من رواتبنا التي نستلمها بالعملة المحلية، لكن بأن يظهر علينا على القنوات الفضائية من يدعونا لربط الحزام، وبأن النصر إنما صبر ساعة وهو على موعد عشاء بعد المقابلة في أفخم الفنادق والمطاعم البقشيش للجرسونات فيها يتجاوز راتب طيار حربي استشهد لأجل الوطن، فهذا ما لا يمكن لنا أن نتفهمه أو نقبله.. الفاسدون في اليمن هم سبب ما نعانيه جميعاً من تدهور وتدنٍ لمستوى معيشتنا، بل هم من يمنعون هذه الحرب من أن تتوقف لتبقى حنفية الفساد طافحة في هذا الوطن، فشبكة الفساد في هذا الوطن أكبر من شبكة الصرف الصحي، وفي عملي كعضو هيئة تعليمية في الجامعة أصبحت أجد صعوبة في توفير احتياجاتي من موارد علمية مثل الكتب والمراجع والدوريات، فلم أعد قادراً على شراء حتى المهم منها، على الرغم من أهميتها لكل أكاديمي".

الفقر يلتهم المجتمع
وتحدث عن أوضاع الطلبة من وجهة نظره كأستاذ قائلاً: "بالنسبة لطلابي فالوضع أصعب وأمر، فكيف يمكنني أن أطلب منهم اقتناء حاجاتهم إذا كنت أنا أستاذهم لا أستطيع ذلك؟، وأصبحت أجد حرجاً عندما أطلب منهم حتى ضرورة توفير آلة حاسبة إذا كان بعضهم يأتي إلى الكلية وهو لا يمتلك في جيبه غير نقود المواصلات، بل إن بعضاً من طلابي يأتوني على استحياء وحرج حتى لا أرفع بأسمائهم ضمن كشوف الراسبين بسبب غيابهم، لأن في كثير من الأحيان لا يتمكن ولي أمرهم من تدبيره لهم، فيضطرون إلى الغياب، فبالله عليكم كيف يمكنني أن أكون أستاذاً جامعياً لطالب جامعي لا يمكن له أن يقتني حتى آلة حاسبة أو نقوداً ليحضر محاضراتي؟

والأدهى أن نطالب أن يكون التعليم الجامعي عن بعد بواسطة الإنترنت بعد تفشي وباء كورونا، فإذا كان الطالب لا يجد قوت يومه، فكيف سيتمكن من توفير خدمة الإنترنت؟، وإن تمكن من توفيرها فكيف سيتمكن من سداد قيمتها إذا كان أصلاً لا يمتلك ما يسد به جوع بطنه؟. بل إن إحدى طالباتي لاحظت أنها لا تفقه شيئاً من المعادلات التي أشرحها وأكتبها على السبورة، وحين جلست معها لمعرفة السبب قالت لي وهي تدمع ألماً، إن نظرها ضعيف ولا يمتلك والدها ثمن نظارة طبية لها بسبب الفقر الذي يعانونه، وأن والدها بالكاد يعمل على تأمين مواصلاتها للجامعة".

وتساءل مغموماً: "بالله عليكم كيف يمكنني أن اتعامل مع حالة كهذه؟ فبقيت أمام حلين لا ثالث لهما، إما أن أكون صارماً جامداً وأعزل نفسي عن الوضع المحيط بي وبطلابي ولا أبالي بما يعانون منه؟ وهو ما لا تطاوعني نفسي عليه، أو أن أتغاضى اعتباراً للظروف المادية والاقتصادية الحالية، وحينها سيتخرج من تحت يدي للمجتمع طلاباً نصف مؤهلين أو أقل، وهو ما لا أقبله".

تقشف واستجب للحدث !
وعن تأثير ارتفاع الأسعار على الحالة الاجتماعية والنفسية وما ستفرزه من تأثيرات على الاستقرار النفسي والاجتماعي لدى المواطن، تقول أ د. أروى العبادي، استشاري إرشاد نفسي، رئيس قسم العلوم السلوكية كلية الطب بجامعة عدن:  "ينظر علم النفس إلى الانسان كوحدة متكاملة، ككائن بيولوجي ونفسي واجتماعي ويؤكدون على مبدأ الفروق الفردي في الاستجابة السلوكية للأحداث البيئية وبمناقشة مشكلة ارتفاع الاسعار وتأثيراتها النفسية الدراسات أثبتت أن الافراد يستجيبون وفق نوعية النسق الاسري الذي ينتمون اليه، فالنسق الاسري المرن والتوافقي ذلك القائم على نمط علاقات اسرية يسودها مناخ اسري متناغم في العلاقات بين افراده نرى انه يستطيع استخدام طرق نفسية ومعرفية وانفعالية و سلوكية تكيفيه وايجابية ليحمي نفسه من الاثار السلبية لهذه المشكلة. وعلى الطرف الاخر نرى النسق الاسري الغير توافقي والمتعثر فانه يعجز عن ايجاد فرص للتكيف الايجابي ، لذلك يعاني من الاثار السلبية بأشكال متعددة صحيا ونفسيا واجتماعيا وكذلك اخلاقيا حيث يمارس وبشكل غير واعي للعنف بأنواعه اللفظي والنفسي والبدني وتضطرب العلاقات الاسرية داخل وخارج النسق الاسري، حيث ينتشر الاضطرابات النفسية مثل التوتر والقلق والإحباط والاكتئاب وتعاطي المخدرات، وكذلك تمارس الانحرافات السلوكية ويمكن يوصل الى الشروع في الجريمة".
 ووجهت د. العبادي، رسالتها إلى المجتمع بالقول: "أن يتعامل المجتمع مع المشكلة كظرف طارئ والسعي للبحث عن مصادر لزيادة الدخل الاسري بما يتناسب وحجم الانفاق، ترشيد الاحتياجات، وضع قائمة بالأهم (جدولة الاولويات) والتفاؤل بان الغد اجمل حتى يسود المناخ الاسري بشائر السلام والأمن النفسي، والمجتمعي".

الأبعاد الاجتماعية والنفسية لمشاكل الاقتصاد
فيما اعتبرت د. نور هادي اليافعي، استاذة في الفلسفة الاجتماعية بكلية الآداب جامعة عدن، وجود تأثير كبير على المواطن في ارتفاع الأسعار كمشكلة اجتماعية، وقالت: "هناك مشكلة جلية تتمثل في تأثير ارتفاع الاسعار على الحالة الاجتماعية، وهذه المشكلة تلامس المواطن بشكل مباشر وتؤدي الى مشكلات اجتماعية وشخصية عديدة تطال معظم افراد الاسرة وتعمل على زعزعة الاستقرار النفسي والعاطفي لديه، وعليه تضعف قدرته على التكيف الاجتماعي".

مضيفة: "إن سوء الأوضاع الاقتصادية لا يتأثر به الكبار فقط وإنما الأطفال كذلك، فالطفل الذي يجد نفسه بين أسرة فقيرة ويعيش الحرمان المادي، قد يؤثر ذلك على اتجاهاته ومشاعرة، فينمو لديه الشعور بالحقد والكراهية ومشاعر النقص تجاه المجتمع، مما يساهم في خلق جو مناسب ومساعد على نمو الاتجاهات العدوانية والسلوك المنحرف، ومن المشكلات أيضاً التي يتعرض لها الأطفال دخولهم إلى سوق العمل وتركهم الدراسة من أجل الحصول على فرص العمل".

وأوضحت د. نور، جوانب عدة متعلقة بالآثار والمشكلات الاجتماعية على المواطن بالقول: "بالطبع هناك آثار اجتماعية تسببت بها ارتفاع الأسعار منها، انتشار الظواهر السلبية في المجتمع مثل الكسب غير المشروع كالرشاوي والعمولات وغيرها بين بعض ضعاف النفوس من العاملين في الوظائف الحكومية، وزيادة الأمراض النفسية وارتفاع نسب الطلاق والعنوسة، وتفشي ظاهرة التسرب المدرسي بين الطلبة. فضلاً عن تدني المستويات التعليمية للتلاميذ، إضافة إلى انشغال الأسرة بحل المشكلات الاقتصادية المترتبة على هذه الزيادة، مما تسبب في إهمال تربية الأطفال والانشغال عن همومهم خصوصاً في مرحلتي الطفولة والمراهقة، وهما مرحلتان حرجتان تتطلبان أن يوليهما مزيداً من الرعاية والاهتمام، لما لهما من انعكاسات نفسية وتربوية تتضح نتائجها وتنعكس تأثيراتها مع مضي الوقت. ومن المشكلات الاجتماعية انتشار المتسولين من الأطفال والكبار والنساء والرجال للحصول على دخل مادي يساعدهم لكسب دخل يومي وإعانتهم للعيش".

واختتمت د. نور حديثها: "بناءً على كل ذلك لا بد من أن تدرك الحكومة مسؤوليتها تجاه أبناء هذا الشعب المغلوب على أمره وإيجاد الحلول الجذرية لإيقاف التدهور المعيشي وانهيار العملة المحلية، السبب الرئيسي لما وصل اليه الحال، والاستعانة بمن لديهم الخبرة العلمية ولديهم إمكانيات لمعالجة الأزمات الاقتصادية، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه للخروج من الحالة الحرجة والاحتضار الذي يعاني منه كل أفراد المجتمع".

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى