ضحية القاطرة.. لم يثقل العجز كاهلها- الإصرار على الحياة والتعليم بعكاز

> تعز «الأيام» عصماء الكمالي:

> "صدمتني القاطرة، وبُتر ساقي الأيمن" عبارتان كلها ألم، الأولى كانت حادثة مفاجئة، والأخرى نتيجة مؤلمة أثقلت قلب ملاك أحمد، بهذه المفردات لخصت الفتاة العشرينية قصتها الحزينة، التي روتها لـ "خيوط"، بصوت متقطع بالبكاء جعل ملامحها المزهرة باهتة في تلك اللحظة، وكأنَّ الحادثة عادت، وتسمع صراخها من جديد، ذلك الألم، الحسرة، ورسمة الحناء المنقوشة على ساقها الجريح.

قبل تسعة أعوام من الآن تزوجت هذه الفتاة، وهي في السادسة عشرة من عمرها -ذلك العمر الذي وصفه كونديرا بعمر الزهور- انتقلت من قريتها "شرعب السلام" لتعيش مع زوجها في مدينة تعز، حينها كانت حياتها مليئة بالسعادة، حد تعبيرها، لكنها حادثة عكرت صفو سعادتها.
تقول ملاك: "بعد زواجي بثلاثة أشهر، صدمتني القاطرة عندما كنت في طريقي إلى بيت زوجي، سقطت على الأرض وساقي الأيمن مليء بالدم".

وتضيف: "كنت أجمع أشلاء قدمي، الجلد لم يعد موجودًا وعضلات الساق منزوعة من مكانها، أجمعهم لفوق ساقي". تخاف فقدان أو ضياع جزء منها، تحاول الحركة لتجمع ما راح من ساقها على الأرض وتجدها عاجزة، لكنها استمرت في تجميع بقايا ساقها المعلقة.
وبنبرة حزينة، وصفت شعورها في تلك اللحظة، عندما شاهدت نفسها ملقاة على الأرض: "رأيت مستقبلي يضيع من أمامي، وكأن القاطرة دهسته مع ساقي، ولم تترك أحدهم بخير".
هكذا وجدت نفسها، عروسًا في الأشهر الأولى، لم تجد العسل إلا على جراحها لتُخفى الندوب، ويقل وجع الجروح. لقد واجهت هذه الفتاة قدرها في جولة الكهرباء بمنطقة عصيفرة وسط المدينة.

حالة سيئة للغاية
استنجدت ملاك بالمارين لإسعافها، لم يأبه بها أحد سوى رجل المرور، الذي قام بإيصالها إلى مُستشفى اليمن الدولي، وهناك تم إجراء الإسعافات الأولية لها والاتصال بزوجها الذي وصل على الفور ليجد زوجته في حالة سيئة للغاية، وتتطلب نقلها إلى صنعاء، بحسب ما أبلغته إدارة المستشفى للتأكد من الاستشاريين المختصين هناك من حاجتها لعملية البتر أو لا.

على الرغم من معاناتها وجراحها، إلا أن ملاك قررت مُواصلة تعليمها الثانوي، واجتازت الامتحانات النهائية للصف الثاني الثانوي مُنتقلة بذلك إلى الصف الذي يليه، وبإصرار كبير أنهت تعليمها الثانوي، لكن عكازها كان حاجزًا ومانعًا لها من دخول الجامعة في السنوات الأولى من الحادثة.
وبالرغم من أن حال عائلة ملاك لا يقوى على دفع تكاليف لعملية واحدة، إلا أنها تحاملت وتكاتفت لنجدة ابنتهم وتم نقلها إلى صنعاء، لكن خبر البتر كان ثقيلًا على زوجها وأسرتها.

يقول مراد، زوج ملاك، لـ "خيوط"، إن تقييم الاستشاريين في صنعاء، كان بقطع ساق ملاك من تحت الركبة، كان هناك -وفق حديثه- قلق وتردد في الموافقة على ذلك، لكن تم الموافقة عليه في نهاية الأمر، وهنا يصف هذه اللحظة بالقول: "بتروها وكأنهم بتروا قطعة من قلوبنا".
بلا ساق، فاقت ملاك من غيبوبتها لتجد معاناة كبرى بانتظارها، وليالي من الألم ترى فيها أجزاء من جسدها فقدتها ولن تعود، حزنت ملاك عند رؤيتها لساقيها؛ أحدهما مبتور، والآخر غارق بالجراح.

بعد البتر، بدأ مكان العملية يقيّح (يلتهب)، فقررت أسرة ملاك نقلها للعلاج إلى السعودية، وهناك قال الأطباء، إن عملية البتر الأولى كانت خاطئة، كما تؤكد ملاك، وقاموا بإجراء تدخل جراحي لبترها مرة ثانية من فوق الركبة، ووضع ساق صناعي بدلًا عنها.
عادت ملاك بكرسي مُتحرك، وطرف صناعي تستخدمه عند حاجتها للمشي أو الانتقال من مكانٍ إلى آخر. في كل ليلةٍ تعيش هذه الفتاة دقائق حرجة في معالجة جراحها إثر ارتدائها الساق، وتبكي من الألم عند ارتدائه ونزعه، وفي ظل هذه المعاناة والعجز، لم تجد إلا الصبر والدعاء، كما تقول.

إصرار وعزيمة
يقال: "وراء كل رجل عظيم امرأة"، لكن ملاك وزوجها أثبتا عكس هذه المقولة الشهيرة، فقد أصبحت عظيمة؛ لأن وراءها رجلاً عظيماً، لم يتركها منذ إصابتها، تَنَقّلَ معها من تعز إلى صنعاء وصولًا إلى السعودية، ظل مُمسكًا بيديها يعينها على مقاومة هذه المعاناة، ويبث الحياة في روحها ويأخذ بيدها للعمل معًا والتخفيف مما قد يثقل كاهلها.

تقول ملاك: "لولا زوجي ووقوفه بجانبي، لَمَا كنت استطعت مقاومة الحياة والتعامل مع شؤوني اليومية، وجدتُه معي بكل خطوة أخطوها، يهوّن عليّ الصعوبات، ويساعدني في تربية الأولاد، عملنا معًا بتعاون وتكاتف في تدبر مختلف متطلبات الحياة".
على الرغم من معاناتها وجراحها، إلا أن ملاك قررت مُواصلة تعليمها الثانوي، واجتازت الامتحانات النهائية للصف الثاني الثانوي، مُنتقلة بذلك إلى الصف الذي يليه، وبإصرار كبير أنهت تعليمها الثانوي، لكن عكازها كان حاجزًا ومانعًا لها من دخول الجامعة في السنوات الأولى من الحادثة.

وبحسب مراد، فإن زوجته مرّت بأيامٍ صعبة، فقدت ساقها في بداية الأمر، ثم كَبُرَتْ مسؤوليتها، خصوصًا بعد مجيء طفليها، لكنها لم تتخلَ عن حلمها في الالتحاق بالجامعة، فقد ظلت بين تحقيق لحلمها وبين ترددها المستمر في الالتحاق بالدراسة الجامعية، ليأتي يوم قرارها الأخير بالتسجيل بعد أربعة أعوام من حادثتها.

كان لزوجها دورٌ كبيرٌ في وقوفه إلى جانبها، بتحفيزها وتشجيعها للدخول إلى الجامعة، ودعمها ماديًّا ومعنويًّا، هذا ما أكدته في حديثها: "دعمني وشجعني كثير، ويشتغل عشان يدبر لي رسوم ومصاريف الجامعة، وما زال إلى اليوم يأخذ بيدي نحو كل نجاح، يساعدني حتى في كتابة وتحضير المحاضرات والتكاليف عندما أنشغل بالبيت والأطفال وأمور الحياة".

كفاح ونجاح

بقدم واحدة وأخرى صناعية، تقطع ملاك المسافات الطويلة من منزلها الواقع في منطقة الزنوج إلى الشارع الرئيسي حيث موقف الباصات، للذهاب إلى الجامعة؛ من ثَمّ تضطر إلى المشي مسافة كيلو متر لتجاوز المسافة من بوابة الجامعة، وصولًا إلى مبنى كلية الطب، الأمر الذي يضاعف ألمها وجراح ساقها.
تشير ملاك إلى أن قطع تلك المسافة بهذا الظرف مشيًا على الأقدام كل يوم يزيد من حجم الألم، لكنها مجبرة على ذلك، عند عدم توفر الباصات.

كثيرة هي القصص التي توضح قوة المرأة، مهما كانت الضربات التي تتلقاها ملاك، أثبتت هذه المقولة عندما تركت عجزها، وانطلقت نحو تحقيق حلمها، بالرغم من ألم ساقها الذي يزداد بقطعها المسافات في سبيل دراستها، مُتجاهلة ما قد يُخلفه من ندوب.

بهمة وعزيمة كبيرتين، استطاعت ملاك أن تجمع بين الاهتمام بأسرتها وبدراستها، لتتخرج هذا العام بتقديرٍ "جيد جدًّا" مع مرتبة الشرف. وبخطواتٍ كلها ثقة مرّت لأخذ شهادة تخرجها مُتجاهلة حزنها، وكلمات التثبيط التي تلقتها من البعض، وكانت دافعًا لاستمرارها في التعليم، وتفوقها ووصولها إلى التخرج والانتقال إلى العمل، كان تحقيق لحلمها ونجاح كبير لزوجها وأهلها وكل من وقف معها وساعدها.

في العشرينيات من عمرها، أصبحت ملاك أماً قوية، وربّة أسرة مِثالية، وشخصية مُلهمة، وكما تردد دائمًا: "بساق أو بساقين سأصل، لا مجال لليأس".

"خيوط"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى