بين مدينة جرونبل وعدن

> في ظل الحروب الأهلية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية، وغياب التنمية تدخل الهويات والمدن في صراع وجودي، يزداد شعور الإنسان بالحنين إلى الماضي (Nostalgia) وهذا ليس عيبًا، ولكن بالتأكيد محاولة للتعايش مع الواقع المؤلم والتطلع نحو مستقبل أفضل ولزرع الأمل والتفاؤل.
قبل أيام قليلة تحصلت على دعوة من أصدقاء فرنسيين لزيارة مدينة جرونبل " Grenoble " وقد أعجبت بهذه المدينة وبتاريخها محاولًا التقاط تقارب العلاقة بطرق مختلفة بينها وبين عدن، فوجدت صورًا من التقارب التاريخي الملحوظ بينهما!

تقع جرونبل في جنوب شرق فرنسا وتبعد حوالي 5 ساعات من باريس ومحاطة بسلسلة جبال الألب الفرنسية السويسرية الإيطالية الخضراء صيفًا وتكسوها الثلوج شتاءً.

جرنوبل كانت مدينة صغيرة قبل ألفي عام، وأول ملاحظة لي كانت سرعة جريان نهر الإيزير"Isère " الذي يقطعها وكأنه مياه الأمطار والسيول عند نزولها من صهاريج عدن في موسم الأمطار الغزيرة، وتعطي الإحساس بالانتعاش، إنه على الرغم من الصعاب والظروف والتحديات التي تمر بها عدن إلا أنها حياة مستمرة وديمومة حضارية. توجد قلعة تاريخية تطل على المدينة أشبه بقلعة صيرة وربطت بعربات معلقة " Téléphérique" تمكنك من مشاهدة المدينة من علو ونأمل أن يوجد مثلها في عدن.

جرونبل أشعلت أول بوادر الثورة الفرنسية في عام 1788 من خلال تمرد عدد من الضباط ضد الملكية، كما كان لأهلها دور كبير في المقاومة الفرنسية ضد الغزو الألماني النازي في الحرب العالمية الثانية وقد ساهم أهل هذه المدينة في مساعدة وإيواء اليهود وإنقاذهم من الإبادة وتهريبهم إلى سويسرا "المحايدة" بحكم الموقع الجغرافي الحدودي لها. وتوجد معالم تاريخية وشواهد كمقبرة تتناصف جغرافيًا بالموقع واستغلت أنفاقها حينها للتهريب بحكم أن مدينة جرونبل وسويسرا بالقرب أيضًا من الحدود الإيطالية مما سهل قدوم اليهود الهاربين من النازية من مختلف مناطق أوروبا والعالم تمامًا كما كان لمدينة عدن دور كبير أثناء فترة الاستعمار البريطاني والمقاومة الباسلة لأبناء عدن في مقاومة وصد الغزو الحوثي العفاشي عام 2015م ودور عدن التاريخي المشهود في استقبال وإنقاذ المعارضين للحكم الإمامي ومن جميع المناطق والدول المجاورة في فترات مختلفة والترحيب بالجميع مثل الشيوعيين العراقيين والسودانيين وغيرهم من المعارضين لأنظمة الحكم في بلادهم والذين وجدوا في عدن الأمان والاستقرار.

في عام ١٩٦٨ أقيمت في هذه المدينة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية وتمهيدًا لهذا الحدث الرياضي الكبير شهدت جرونبل تطورًا معماريًا وتنمية حقيقية في البنية التحتية، وتوسعًا ملحوظًا تستطيع أن تلمسه من خلال زيارة المدينة والخرائط والصور القديمة الموجودة في متاحفها وشوارعها، مغايرًا تمامًا لما كان مفترضًا ومتوقعًا أن يحصل في مدينة عدن في خليجي 20 عام 2010م عندما كانت وعود التطوير والتوسع شكليًا وسطحيًا وانهار بمجرد أن انتهى الدوري والمهرجان ومغادرة المشاركين، ولم يتبقى من مشاريع تنموية أو ملاعب ومنجزات رياضية في عدن إلا الذكريات والحسرات والإحباطات، بينما تشاهد في جرونبل المنجزات الحقيقية والملاعب الأولمبية وافتخار أهلها بذلك الحدث الرياضي الهام على الرغم من مرور أكثر من خمسين عاما.

شهدت مدينة جرونبل أول صناعة للمولدات مزودة بشبكة كهربائية أرضية والألواح الشمسية ومراوح هوائية منتشرة بكثرة، من خلال المرور في شوارعها العريضة تدرك أن التوسعة بنيت على أساس الرؤية المستقبلية للزيادة المتوقعة في عدد السكان والمشاريع التنموية الأخرى، بالإضافة إلى وجود المفاعل النووي السلمي لتوليد الطاقة الكهربائية، حيث تعتبر فرنسا من أفضل دول العالم في استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء، وتذكرت بأن مدينة عدن كانت من أول المدن المتقدمة في المنطقة باستخدام الطاقة الكهربائية واليوم هي الأسوأ في ذلك للأسف.

تفخر هذه المنطقة بالرئيس الفرنسي الراحل تشارلز ديجول الذي كان صاحب رؤية سياسية قوية وعقلية تنموية استراتيجية شاملة ويقدر أهل جرونبل موقفه في تنمية المدينة على الرغم من المعارضة حينها من بعض السياسيين لهذا التوجه وتكلفته المادية ولا شك بأن المواقف الواضحة والمبادرات التاريخية والتنموية هي الشواهد الحقيقية على عظمة الشخصيات والقيادات التاريخية وتقديرها بأعمالها ومنجزاتها بما يفيد الناس وتعيشه الأجيال، وليس هناك مكان لمن يحاول تطويع الأحداث لمصالحه الخاصة.

وهي أيضًا من المدن المهمة في الأبحاث والتكنولوجيا والاختراعات ويطلق عليها اسم المدينة العالمية في شبكة الأبحاث " Globle City ".

كما تتميز جامعة جرنوبل بمستوى عال في التحصيل العلمي الأكاديمي، ويذكر أنها تأسست في عام 1339م وتعتبر ثالث أكبر جامعة في فرنسا، وتستوعب ٦٠ ألف طالب وثلاثة آلاف باحث وعدد كبير من الأساتذة سنويًا. وقد احتضنت الكثير من الطلاب من مختلف دول العالم وعددًا من اليمنيين من بينهم رئيس الوزراء السابق والسفير الحالي في جنيف الدكتور علي مجور.

لزيارة وقراءة تاريخ المدن فوائد يمكن التعلم والاستفادة منها.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى