​عودة اللحن الغائب

> استطاعت مصر بجهود باحثين وآثاريين وموسيقيين أن تعيد إلى الواجهة الغناء والإنشاد والموسيقى التي سادت في مصر القديمة قبل آلاف السنين، ثم بادت وها هي تعود من جديد.
العين كانت صاحبة القدح المعلى في رؤية ومتابعة وقراءة الرسوم والجداريات القديمة وفك طلاسمها وشفراتها، ومن ثم إعادة الروح إليها.

في مصر القديمة هناك أكثر من (45) نوعاً، وليس آلة، من الأدوات الموسيقية كما يقول خيري الملط مؤسس مدرسة الموسيقى المصرية القديمة.
عودة الروح هذه هي قصة بحث مضنية في متاحف مصر والعالم عن هذه الآلات ونفض السكون الأبدي عن رقها وأوتارها وجلودها، ثم محاكاتها بصناعات عصرية مطابقة، وبعد ذلك الغوص في أبجديات اللغة الهيروغليفية والتوصل إلى المقامات والسلم الموسيقي، وإتقان الإنشاد والغناء بها، ومن هنا شنفت آذاننا بذلك الكم الهائل من النغمات والألحان المسبوكة التي ماتت قروناً في أقبية ومقابر الفراعنة والنبلاء وعادت إليها الحياة قبل أن تعود لأصحابها الذين آمنوا بالبعث من بعد الموت.

كان لمشاهدة موكب الملوك العشرين (المومياوات) من ملوك مصر القديمة بذلك المستوى الكرنفالي الأسطوري الرائع وهم عائدون من مراقدهم المختلفة إلى المتحف المصري، واختلط فيه القديم بالجديد، والعصري بالهيروغليفي، إبهار مصري جديد للعالم يشبه بناء الأهرام نفسها.
كان في مصر القديمة كما يقول الأستاذ خيري الملط أكثر من 250 مناسبة احتفائية في السنة الواحدة، ولعل السر في ذلك عائد إلى (النيل) الذي يسدي إلى المصري ذلك الاستقرار النفسي والاجتماعي الذي يقوده إلى الفرح والبهجة والاحتفال والتعبير عن خواطره بالرقص والغناء في مواسمه المختلفة زراعية كانت مرتبطة بالبذر والزرع والحصاد أو بالري طمياً فيضانياً أو حتى جفافاً ناهيك عن مواكب الملوك ورجال المعابد والأعياد، والاستعداد للحرب والابتهاج بالنصر وحتى طقوس الموت.

وهذا ما نقوله عن الغناء في لحج مع الاحتفاظ بالفوارق الكبيرة، حيث يرتبط ذلك الغناء بوادي (تبن) العظيم ما أعطى للالحان مساحات موسيقية وإيقاعية متكاملة أخرجت (الأغنية)، لارتباط (اللحجي) بالمواسم الزراعية وشعوره بالاستقرار النفسي في ظل حاكم (سلطان) هو بالأساس فنان ومثقف، بينما الجوار اللحجي الرعوي الجاف والقاسي يصقل صاحبه على شئ من الزوامل المحفزة على القتال.

لا نستغرب من أن رحالة إيطاليا هو رينزو مانزوني زار لحج عام 1877م، واعتقد أن تبن نهر جار كأنهار أوروبا لأن السيول المتدفقة من المرتفعات الشمالية و(الغيل) المتفجر من أرض الوادي طول العام جعلت تبن بمثابة نهر.
ودون ريب في أن رواد الغناء الأوائل مثل فضل ماطر باجبل قد استفادوا من مخزون الموروث الشعبي المتداول في لحج في المناسبات المختلفة من حوليات للأولياء الصالحين والموالد النبوية والأعراس والمواسم الزراعية وحتى الختان وختم القرآن الكريم، ليبنوا من ذلك ألحانهم المبهجة، ووجد القمندان (أحمد فضل بن علي العبدلي) ضالته المنشودة فصنع من كل ذلك الأغنية المتكاملة الأركان وظهر على يديه صوت الغناء الجديد في لحج، وأصبحت الموسيقى والأغنية في لحج واحدة من السمات السيكولوجية والثقافية والاجتماعية للإنسان اللحجي حتى اليوم.

يقول القمندان:
يا فل يا عود ماء وردي وعنبر
وانت عسل جرداني وسكر
فين وليت دوبي 1 تخبر 2
لما متى يا قلبي تصبر
فين وليت قلبي تفطر
بعدك على الله في بحر أو بر
يا ليل ابيض او يوم ازهر
فيه اللقاء يا قلبي تصبر
انت بطل من شافك تقهقر
تخشى بعادك عرب وبربر
وليه 3 يا سيد مني تفرفر 4
مابا اعذرك 5 يا قلبي تصبر
العنق بلور والصدر مرمر
ونا 6 متيم باجي 7 وبازقر 8
با قول 9 قر10 يا سمن البقر قر
لما متى يا قلبي تصبر
اشرب معي يا سيد واسهر
سهرة كما عبلة وعنتر
لما يقول الله أكبر
ما با افرقك يا قلبي تصبر
كم لي من المولد 11 تخور 12
با لي مشبك 13 ولا مكركر 14
والزين سمرني 15 وكثر
يوم الهناء يا قلبي تصبر
شوف العشي 16 سود وغبر
ركب 17 على الوادي وزقر 18
هاتوا عباتي خاف 19 بامطر
يا فرحتي يا قلبي تصبر
شن المطر و السيل دفر 20
والطين ساقي 21 خاف يوفر 22
عاد البقر 23 من شق خنفر 24
با جيبها 25 يا قلبي تصبر
هذا زبيدي بلح وصفر
واصبح مناصف 26 رطب مفرفر 27
وذا عنب من زحله وصوفر 28
خريف 29 حالي يا قلبي تصبر
وقد استوقفني غياب الأغنية العدنية ما قبل ظهور (الندوة العدنية) التي يؤرخ لها من أعقاب الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945م، ليس غياباً ولكنها حلقة مفقودة لا يجوز تجاهلها.
فقد كانت عدن (الدولة) فسيفساء إنسانية نابضة بالأثنيات والأعراق والقوميات والمذاهب والأديان خاصة بعد استقرار الإنجليز فيها منذ العام 1839م، ومن الخطأ الاعتقاد أن ذلك المزيج الحي والتنوع الرائع قد عاش صائماً عن الغناء والطرب والموسيقى والرقص إلا أن يكون الناس أمواتاً بالحياة.
لا بد من أن يكون هناك نسيج من موروث الغناء مصاحباً لحياة سكان عدن في فرحهم وأعراسهم ومناسباتهم المختلفة حملوه معهم إن كانوا قادمين من وراء البحر أو تأصل في تقاليدهم إن كانوا سكاناً أصليين، وما أكثر هؤلاء وهؤلاء في عدن من عرب وإنجليز وهنود متعددي القوميات والأديان ويهود وصومال.. إلخ.
إن ذلك يضعنا امام معضلة عدم التوثيق و البحث عن الغناء المفقود في عدن فلا بد أن يكون للمدينة العريقة أغان متنوعة ورقصات وموسيقى وألحان لكل مناسبة إنسانية ولكل طائفة أو مجموعة أثنية أو دينية تعبر عن مكنونات خاطرها من موروثها الشعبي الذي جاء معها وتطور بمعطيات المدينة الأم الجديدة عدن، وأصبح واحداً من ملامحها الثقافية والحضارية والفنية قبل أن نقزم تاريخ المدينة العريقة بالاعتماد على التاريخ الموسيقي الظاهر والمعاصر وهي عدن قد سبقت الجميع في المدنية والحداثة.

هوامش
1 - دوبي: دائما.
2 - تخبر: اسأل.
3 - وليه: لماذا.
4 - تفرفر: تهرب.
5 - ما با اعذرك: لن أعذرك.
6 - ونا: وانا.
7 - باجي: سآتي.
8 - بازقر: سأمسك.
9 - باقول: سأقول.
10 - قر: قف.
11 - المولد: زيارات سنوية معتادة لأولياء الله الصالحين.
12 - تخور: أشتهي وأتمنى.
13 - مشبك: من حلويات لحج تشتهر بها الوهط.
14 - و لامكركر: أو مكركر، والمكركر من الحلويات التي تباع في المناسبات وزيارات الأولياء، وهو عبارة عن فول سوداني مغطى بطبقة من السكر.
15 - سمرني: التسميرة هي الحلويات التي تباع في زيارات الأولياء وتهدى للأحباب في هذه المناسبة.
16 - العشي: الغيوم السوداء الماطرة التي تظهر في أفق رأس الوادي مبشرة بقدوم السيول.
17 - ركب: تكاثفت على رأس الوادي.
18 - زقر: امتدت الغيوم الملبدة على رأس الوادي من الناحية الشمالية وظهرت للعيان.
19 - خاف: يمكن.
20 - دفر: سال وأقبل.
21 - ساقي: مروي.
22 - يوفر: يسقى وهو ساق أصلا وللمرة الثانية وهو ما لا يحبذه الفلاح.
23 - عاد البقر: أيضاً والبقر.
24 - شق خنفر: خنفر مديرية معروفة في أبين وهو سيجلب الأبقار من أبعد من خنفر.
25 - باجيبها: سأجلبها.
26 - مناصف: مرحلة من مراحل نضوج التمور تكون الثمرة نصفها رطب والآخر بلح.
27 - مفرفر: غير متماسك كل واحدة بمفردها دليل الجودة.
28 - زحله وصوفر: مسمى لأرضيتن زراعيتين في لحج.
29 - خريف: البلح.
30 - قبل سنوات تناقشت مع الأستاذ باشراحيل هشام باشراحيل في أمر التراث الغنائي العدني، حيث أكد حينها وجود أغان عدنية تسبق بكثير (الندوة العدنية) ولعلها محفوظة في بريطانيا أو الهند أو مكان آخر ضمن تقنيات تلك الفترة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى