ملحمة عدن الكبرى وأخواتها الجنوبيات..2015م الدروس والعبر

> في هذا المقال أحب أن أذكر الناس في الجنوب عامة، وفي العاصمة عدن خاصة فـ "الذكرى تنفع المؤمنين" كما جاء في كتاب الله العظيم، أذكر بتلك الأيام من خلال "الأيام".

تلك الأيام والشهور الشديدة التي شهدتها العاصمة عدن في 2015م، في أثناء الغزو الحوفاشي الشمالي للجنوب بشكل عام، وكيف وصل ذلك الغزو إلى عدن، وماذا فعل الغزاة، وكيف جرت مقاومتهم وطردهم، وماذا حصل لهذه المدينة من تشرد وحصار ومن قتل وقنص، وكيف خان من خان وضحى من ضحى، وكيف كشفت هذه المدينة خاصة عن معدنها القوي الوفي الأصيل، وما قدمت من تضحيات جسام على مذبح الحرية والتحرير.

الناس في هذه الأيام، مع توالي المحن والصعوبات، لم يعودوا يتذكرون تلك المحنة الكبيرة، وتلك الملاحم العظيمة التي سطرها شعبنا في الجنوب، لا سيما في عدن ملحمة أو ملاحم سيخلدها التاريخ في أنصع صفحاته مدونة بحروف من ذهب.
لم يكن لنا عشرات السنين منذ تلك الأيام، ولكن بيننا وبينها ست أو سبع من السنوات وإن كانت عجافا.

فهي امتداد لذلك الغزو بطرق مختلفة وانتقام من ذلك النصر الذي تحقق، ومن الشعب الذي صنعه بمعونة الله تعالى، ولكن علينا أن نذكر ونذكر غيرنا، ونتذكر تلك الملاحم؛ لأن الغزاة ما يزالون يتربصون بنا الدوائر، ويحاولون العودة إلى الجنوب وإلى قلبه النابض عدن. علينا ألا ننسى ما حصل لنا ولبلادنا ولأولادنا ولحياتنا، وكيف كان رد الفعل العظيم تجاه هذا الغزو الغاشم وكيف كان الناس أشداء على الغزاة ورحماء بينهم، فما من شعب إلا استفاد من تاريخه بعيدا كان أو قريبا.

كيف خرج الشباب يقاومون ويقاتلون وليس معهم سلاح؟ وكيف كانت المجموعة منهم يقاتلون بسلاح واحد؟! هذا لم يحصل في أي مكان، وحتى قبل ذلك حين خرجت قوة جنوبية بقيادة وزير الدفاع الأسير البطل محمود الصبيحي لوقف عنجهية الغازي قائد القتل المركزي في الصولبان المدعو السقاف، أبى الشباب إلا أن يشاركوا في تلك المعركة مع أنهم عزل، فساروا أمام الدبابات ومن حولها كأنهم في زفة أفراح، كل هذا رغبة في طرد الاحتلال سيء الصيت، وحبا لهذا الوطن، وحبا لهذه المدينة وفي الخلاص من المحتل.

نذكر ونتذكر كيف كان الشباب يبحثون عن السلاح بأي طريقة. لقد عرضوا أنفسهم للخطر في جبل حديد، واستشهد منهم من أستشهد حين انفجر أحد مخازن الجبل، كل ذلك ليس من أجل النهب والسلب، ولكن من أجل الدفاع عن مدينتهم وحريتهم ووطنهم المفدى.
وإن كان هناك من المجاميع القبلية والعسكرية المسرحية من هب لينهب، ولكن أولئك كانوا من ضمن قوى الاحتلال بأثواب جنوبية خادعة.

رفض الشباب أن يبيعوا السلاح الذي عادوا به من تلك المغامرة الفدائية، وقالوا سنقاتل به الغزاة المحتلين، وقد صدقوا وأوفوا بعهدهم.
نتذكر هذه الملاحم فأبطالها يعيشون بيننا، وهناك من أبطالها من استشهد. إنه تاريخ قريب وحبيب صنعناه بأيدينا جميعا.

علينا أن نستفيد من الدروس ما كان إيجابيا منها وما كان سلبيا، ولا نسمح لصعوبات الحاضر أن تنسينا أمجادنا وجَلَدنا وجدنا مهما كانت. علينا اليوم ألا نتنظر عدونا حتى يأتي ليقرع أبوابنا إلى عاصمتنا، ولا إلى أي مدينة جنوبية أخرى أو قرية، فمن طبيعة الحروب وفلسفتها ألا تنتظر عدوك حتى يأتي إلى عقر دارك، فإما أن تهاجمه أولا -والهجوم خير طريقة للدفاع- أو على الأقل تواجهه عند منتصف الطريق، لأنه إذا وصل إلى حماك سيذلك ويحاصرك ويقطع عليك كل شيء، وسيشغلك بنفسك وبأطفالك وبنسائك وبأموالك وغير ذلك؛ ولهذا كان الإمام علي رضي الله عنه يقول لأصحابه وأنصاره من المسلمين "فوالله ما غُزِي قومٌ في عقر دارهم إلا ذلوا!"، وهذه قاعدة حربية ذهبية.

علينا أن نتذكر ماذا فعل الغزاة بنا، وكيف دخلوا المؤسسات، كيف دخلوا الأماكن، كيف قطعوا خطوط المواصلات، وكيف شردوا الناس. نتذكر كيف استقبلت المدينة بعضها، وكيف احتضنت المدينة نفسها، كيف حمل واحتمل بعضُها بعضِها الآخر. نزح الناس من المعلا ومن التواهي ومن القلوعة ومن كريتر ومن خور مكسر... شهور مرت، ولا أحد يسمع أذانا في مساجد خور مكسر وغيرها. هذه أمور ما حصلت عبر التاريخ. اكتظت مدن الشيخ عثمان والمنصورة وإنماء والشعب والبريقة وغيرها بأهل المدن التي ذكرناها. نتذكر كيف اتسعت القلوب وصارت أوسع من البيوت، هنا علينا أن نفتخر وأن نراهن على هذا الحس الحضاري الإنساني العميق.

حُوصر الناس من الخدمات (الكهرباء والماء) والخضار ومن المواد ومن كثير من الأشياء، وما كنا نجد حتى الملح مثلا.
نتذكر -ونعي ما نتذكر- الشباب وقد هبوا ليرسموا تلك الملحمة، دوخوا بالغزاة الحوثيين ومن كان معهم، مع أنهم ليسوا جيشا منظما، بل كانوا شبابا مدنيين، لكنه الإقدام وحب الحرية وكراهة الذل والعبودية.

نحن الآن نشكو من هؤلاء الشباب أو من بعضهم، نشكو منهم في المعسكرات أو في النقاط أو وهم يمتطون الأطقم العسكرية ويفحطون ويعملون حوادث وغير ذلك. نحن لا نشجع هذه الأمور منهم لكنهم، بصراحة، في تلك المواقف والأيام، هم الذين أنقذوا المدينة وأهلها، وحرروا الوطن، يجب أن نقول الحق، هؤلاء أبناؤنا، وحين يقعون في الأخطاء نعلمهم ونصوب سلوكهم ونرفق بهم. علينا أن نحبهم فهم منا ونحن منهم، وحتى الآن، ما زالوا يعانون انقطاع رواتب وتدهور معيشة وغير ذلك.

إنهم صمام أمان الوطن، ولكن من غير أي حصانة قانونية لأحد حين يقع في الأخطاء الجسيمة.
وعموما، فالشباب في كل مكان هم الطاقة الجبارة لأي دولة، والمهم كيف يتم بناؤهم، وكيف يؤدى الواجب تجاههم.

يجب أن نتذكر تلك الأدوار للشباب المقاومين، هناك مقاومون فيما بعد تفرقت بهم السبل، فهناك من التحق بالتشكيلات الأمنية والعسكرية الجنوبية، وبعضهم عبثت ببراءتهم العسكرية والوطنية والدينية قوى مشبوهة معادية للجنوب فاضلوهم الطريق وعرضوهم للأخطار والتطرف، ولا نزكي أنفسنا في التشكيلات العسكرية والسياسية الجنوبية من التقصير مع هؤلاء في تأخير استقطابهم واستيعابهم، سواء قبل تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي أم بعده، فلا نحن ولا هم ملائكة يمشون على الأرض أو منزهون عن الأخطاء.

فعلينا من جديد رص الصفوف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من براثن القوى المعادية، فنحن أحرص على أبنائنا حتى من أنفسهم، في حدود الواجب الوطني والمصلحة الوطنية وفي ضوء القيم الإسلامية والإنسانية.
يجب أن نتعلم من تلك الأيام كيف ننتصر، ولكن أيضا كيف نحافظ على النصر ونحميه ممن جبلوا على سرقة انتصارات الآخرين وتضحياتهم، وأن نتعلم أن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة.

ولا ننسى، ونحن نقرأ صفحات تلك الأيام، مساجد عدن ومساجد مدن الجنوب الأخرى حين كانت تزمجر منابرها مثل الرعود في عز الصيف وتشرق بروقها في الليالي المدلهمة، فيعقب كل ذلك تدفق سيول المقاومة من كل صوب تدحر جيوش التخلف والغزو لا تلوي على شيء.
وفي نهاية هذا المقال أحب أن أشير إلى أننا لم نهتم بتلك البطولات الوطنية الجنوبية حق الاهتمام.

لم نهتم بها في إعلامنا وفي تعليمنا وفي ثقافتنا، ولم نستلهمها حق الاستلهام في مسيرتنا، التي لم تصل بعد إلى شاطئ الاستقلال الناجز، ولم نوثقها أحسن التوثيق، ولم نخضعها للبحث العلمي التاريخي بعد.
تلك الملاحم الواقعية التي ضارعت الأساطير أحيانا، يجب أن يستلهمها مسرحنا وأدبنا وقصصنا وفنوننا بمختلف أشكالها.

لم تكن تلك الملاحم قد حدثت في العاصمة عدن فحسب، ولكنها وقعت في مدن جنوبية كثيرة، تعرضت لذلك الغزو، فكل مدينة تحتذي أختها، فالهم واحد والموقف واحد والثورة واحدة. كذلك وجدنا حوطة لحج والعند والضالع وزنجبار ومدن أبين الأخرى ومدن شبوة ومناطقها، والمكلا حين قاومت احتلال الأمن المركزي الشمالي تحت مسمى القاعدة، كل هذه البطولات يجب أن نعطيها حقها من الاهتمام علميا وإعلاميا وثقافيا وسياسيا ووطنيا، وأن نخلد شهداءها ونرعى عوائلهم، وغير ذلك من الاهتمام. والمهم هو الحفاظ على ذلك الوهج الوطني وروح المقاومة والدفاع، وذلك التماسك المجتمعي الكبير.

أحيي في هذا السياق صحيفة "الأيام" التي كانت في كل عدد تروي لنا قصة شهيد من شهداء هذه المدينة بقلم الزميلة الكاتبة خديجة بن بريك، فهذا يصب فيما ذكرناه من واجب الاهتمام.
وأخيرا فنحن لن نجحد دور دول التحالف في تلك الأيام العاصفة، وما قدموه لشعبنا في الجنوب، وقد كنا عند مستوى ذلك الدعم اللوجستي، فكسر شعبنا طموح إيران في أهم موقع استراتيجي جنوبا، ولم تكن عدن ولن تكون من العواصم التي تتباهى طهران الطائفية أنها تدور في فلكها.
فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أحوجنا اليوم إلى هذه الروح المقاومة المؤمنة بالنصر وبعدالة القضية، فالغزاة يتربصون من جديد، والتركيع والتجويع قد بلغا فينا ما بلغا، وقد حان أن يتحرر الجنوب كله حق التحرير راية وغاية وإرادة وإدارة وخبزا ودينارا وبرا وبحرا وما في جوفيهما، بعون الله فاطر السموات والأرض.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى