عيد الحرية والحاجة إلى تصحيح أخطاء التاريخ ومواجهة تحدياته

> صالح عبد الله مثنى

> كل شعوب العالم تحتفل بالذكرى السنوية لنيل حريتها وتحقيق استقلالها الوطني، وشعبنا في الجنوب واحد منها، وأجمل احتفاء بمثل هذه المناسبة هو تخليد ذكرى نضالات شعوبها وأمجاد شهدائها، وأشمل من ذلك باستخلاص دروس تجربتها وتاريخها، كي لا تكرر الأجيال أخطائها وتبني على نجاحاتها، وتتقن التعامل مع التحديات التي تواجهها، وهذا ما يجدر بكتابها وقياداتها وكوادرها أن يستوعبوه، وفي ذلك مجالات رحبة لأن تكون محور ذكريات معاصريها، بدلاً من البكاء على الأطلال، وإحياء صراعات الماضي، وتقويض وحدة ونضال الجنوبيين لاستعادة حريتهم والدفاع عن كرامتهم الوطنية.

في ظروف بلادنا، فإن من أولى تلك الدروس والعبر التي تعني حاضره هو الإشارة إلى أن واقع انقسام الجنوب إلى كيانات صغيره قد سهلت إخضاعه والسيطرة عليه، وإبقاءه في حالة صراعات داخلية وتخلف شامل، ورفض مطالباته السلمية بالاستقلال والحرية، وضرب مقاوماته التحررية المجزأة، ولكن كل تلك الأوضاع كانت كافية لاستدعاء وحدة كل الوطنيين الجنوبيين والتقائهم في تنظيمات مجتمعية وسياسية ومعارضة وطنية، وحركات ثورية، تراكمت كل جهودها ونضالاتها المختلفة لخوض ثورة شعبية أرغمت الاستعمار البريطاني على الرحيل وانتزاع الاستقلال في الثلاثين من نوفمبر 1967م، وتلك هي دروس التاريخ لصالح الحاضر والمستقبل.

في تجربتنا الجنوبية ولعوامل داخلية وخارجية لم تنجح محاولات وحدة الحركة الوطنية، ولا وحدة الجبهة القومية التي أمسكت بزمام المبادرة في قيادة الثورة وتحقيق الحرية وبناء دولة الاستقلال الوطني، تعمقت خلالها نزعات الاستئثار والاقصاء، واندلعت داخلها الخلافات والصراعات، استغلها الخارج ليدفعها إلى المواجهات بهدف إضعافها والتأثير عليها، والتحكم بمستقبلها.

ولمرحلة ما قبل الاستقلال وبعده لم تتمكن قوى سياسية واجتماعية لوحدها من الاضطلاع بإقامة دولة آمنة مستقرة ومزدهرة، ومعها يصبح تحقيق مصالحة تاريخية وشراكة وطنية أساساً لتطوير حركة وطنية فاعلة تجمع بين الوحدة والتنوع لانتصار ولتحقيق الحل العادل للقضية الجنوبية.

في الواقع العملي ومنذ الوهلة الأولى لدولة الاستقلال الوطني أثبت النظام الرئاسي فشله، فلم يمضِ الرئيس قحطان الشعبي بضعة أشهر حتى طلب منه إخلاء رئاسة الوزراء، ومع كل القوة الرسمية والشعبية التي حشدها الرئيس سالمين حوله لفرض النفوذ على مفاصل الدولة المختلفة، إلا أنه وصل إلى طريق مسدود في نهاية المطاف، والمثير للغرابة أن الاستفادة من تلك التجربة لم تجرِ، بل زاد التغول في مركزة السلطة توحشاً، فحين جاء الرئيس علي ناصر سيطر رسمياً على رئاسة الدولة والحزب والحكومة، حتى أصبح الاقتراب من أحدها محرماً ومشروعاً للقتل وبدم بارد، وبكل تلك الصراعات المصاحبة تآكلت الدولة وانهارت وضاع كل شيء، لتبدأ رحلة الحرية من جديد، ولجعلها تمضي في طريق آمن، ولتفادي تكرار تلك المآسي ينبغي صياغة نظام حكم تتوزع فيه سلطات الدولة وتمنع تمركزها مرة أخرى، من خلال عملية انتقالية للتحول الديمقراطي على طريق بناء الدولة المدنية.

إن الرومانسية الثورية والأيديولوجية لم تكن كافية ولم تعد صالحة لتحديد النظام الاجتماعي، فالتطبيقات الاشتراكية التقليدية قد تجاوزها التاريخ على ما رافقها من أخطاء وما وصلت إليه من طريق مسدود في إحداث تنمية ناهضة تحل مشاكل التخلف وتسريع عجلة التطور، وفي الوقت ذاته لم يعد الوقت متاحاً لترف النزعات الثورية لتحديد السياسة الخارجية التي ازدهرت في ظروف الحرب الباردة، وعلى الخلاف من ذلك تحتاج البلاد إلى نظام دولة للعدالة الاجتماعية يجمع بصورة خلاقة بين مسؤوليات ودور المؤسسات العامة وتشجيع القطاع الخاص ليقوم بوظيفته التاريخية كرافع للتنمية الشاملة، بالاستفادة من نجاحات بلدان الأنظمة الاجتماعية الديمقراطية، وأفضل التجارب التي نهضت فيها دول من قاع الصفر ومن تحت الأنقاض لتساير المجتمعات المتقدمة ارتفاعاً بمعدلات النمو، بدعم من سياسة خارجية برجماتية وبناءة، على طريق التكامل والشراكة الوطنية والإقليمية والدولية المثمرة.

لقد مرت العلاقات بين الجنوب والشمال بتجربة مريره في عهد التحرر من نظام الإمامة والاستعمار على الأقل، أكثر من خمسة عقود من المواجهات وخمسة حروب ما زالت الأخيرة منها مشتعلة في عامها السابع، حمل البحث خلالها عن سراب الوحدة المفقودة كل آلام خرابها ودمارها، وزادت العلاقات تنافراً وتباعداً اكثر فأكثر، وبدا أن تحقيقها ظل يفتقد إلى القيم المشتركة، بين مجتمع وسلطة قبلية عسكرية دينية، ودولة مجتمع مدني تراكمت لإدارته سلطة النظام والقانون، لقد حان الوقت لمراجعة تاريخية لهذه المسألة ووضعها في سياقها التاريخي والطبيعي، فاليمن كإقليم جغرافي نشأ على حالة من التنوع المجتمعي، قامت عليه دول عديدة في آن معاً ، فشلت معها كل الحروب لتوحيدها بالقوة ، ونجحت معها محاولات التكامل، والحرص على تأمين حركة التجارة الدولية العابرة لخدمة ازدهار دولها واستقرارها.

هذا هو المسار الممكن لتشكيل القيم السياسية والاجتماعية والانسانية المشتركة والعوامل الحاملة لعلاقات أكثر قرباً، ولا شيء آخر.

وفي نفس السياق يمكن تصحيح العلاقات الأخوية مع البلدان المجاورة. أثارت شعارات الثورة والجمهورية والاشتراكية مخاوف مشروعة لدول المنطقة في بادئ الأمر، إلا أنه كان من الممكن احتواء تأثيراتها الضارة المحتملة بالتعاون ومد يد العون وعدم ترك البلاد تذهب بعيداً، والنظر إلى النصف الآخر من الكوب، فقد ساهمت النزعات التحررية التقدمية لدولة الاستقلال بفرملة استيلاء الملكيين على النظام بصنعاء حتى لا يسقط بالكامل ومن جديد بدعم الدولة الجنوبية الناشئة، وساهمت باستكمال منح دول الخليج استقلالها والاستفادة من ثرواتها، حتى يمكن تفادي انتقال عدوى التجربة الجنوبية إلى بلدانها، وأدى ذلك في نفس الوقت إلى استقرار المصالح الدولية فيها، ولم يكن الجنوب ولا الشمال بحاجة إلى المعاملة القاسية التي عانيا منها وما زالا، حتى لو لم يكن على وئام تام معها، كان يمكن الأخذ بالحكمة التاريخية التي تقول بان كل ضاهر شر تحتوي على عنصر خير، وهو الاقرب والاحق بالرعاية بدلاً من حروب الخراب والدمار التي لا يستحقها الجنوب ولا الشمال، والافضل بدلاً من ذلك استقطابهما في علاقات من الإخوة والتعاون والشراكة في إطار مجلس التعاون الخليجي أو خارجه، ففي ذلك خدمة لمصالح الجميع.

إن الموقع الجيواستراتيجي للجنوب وعاصمته عدن ظل على الدوام في خدمة المنطقة والعالم كمركز ملاحي وتجاري دولي، وبإمكانه استئناف هذ الدور بالتكامل مع موانئ الدول الشقيقة، وبأن يقوم بالمسؤولية اللازمة لتأمين الملاحة الدولية عبر خليج عدن ومكافحة الإرهاب، فقد نشأة الدولة الجنوبية على قيم وثقافة مجتمع مدني غير حاضنة للإرهاب، وعندما نرى اليوم وحدة جهود مجلس الأمن الدولي لإنهاء الحرب في اليمن وإحلال السلام فيه، وحين ينهض سفراؤه معاً احتراماً لاستقبال اللواء عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، فإن ذلك يجعلنا نشعر بالأمل بأن العالم يعتبر أن السلام لليمن والحل العادل للقضية الجنوبية مصلحة لأمن واستقرار المنطقة والمصالح الدولية المرتبطة بها.

تلك هي المحطات الأكثر أهمية في مسار التجربة الوطنية التي تستحق المراجعة والتقييم والاستفادة من دروسها الحيوية، وكتابة المذكرات حولها، لتصحيح أخطاء التاريخ ومواجهة تحدياته، والتعويض عن كوارثه ومآسيه، والمساهمة في معافاة الوطن والحرص على مستقبله ومصير شعبنا فيه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى