شبوة.. الحاضر سليل الماضي

> النضال لتحقيق الأهداف السامية والضرورية لحياة الناس وانتشالهم من الواقع الصعب والمعقد، وجعل حياتهم أجمل وأسهل مع كل يوم يمر، هو أمر يحتاج لتغيير حقيقي في عقولنا أفراداً وعائلات وقبائل ومكونات مجتمعية أخرى.

التغيير الذي نسميه حقيقياً عمل يجب أن يقوم به الكل منا وعلى وجه الخصوص المفكرين والمثقفين والعقلاء والإعلام الصادق، وهو عمل جماعي من حيث إن لملمة الناس للتفكير والفعل في الحياة، تحتاج لفترات زمنية ليست قليلة، لكننا في حالتنا قد مررنا بها واستوعبناها، وأخشى أن أقول إننا قد تجاوزناها ودخلنا مرحلة الفوضى.

ما يجب علينا فعله هو أن نفكر في المستقبل، أما الماضي فليس بيد أحدٍ أو بمقدرته أن يغيره. يترك التاريخ والسياسة والعادات والتقاليد آثارها على الواقع المجتمعي، ويصوغ معادلاته في طرق وأساليب التفكير لدى هذه المجموعة البشرية أو تلك.

سأدعي أنني أكتب رؤيتي للواقع المجتمعي والسياسي لمحافظة شبوة، ورغم نشأتي ومعيشتي ودراستي وعملي حتى هذا اليوم في العاصمة عدن إلا أنني عايشت وحافظت على تواصلي بها وعلى ما اختزنته الذاكرة، لا سيما أنني خدمت في سلك التدريس بشبوة.

محافظة شبوة قليلة السكان بالنسبة لمساحتها، غنية بثرواتها النفطية والغازية والزراعية، وهي المحافظة الوحيدة التي تشعر وأنت تتنقل في نواحيها وكأن سكانها هم عدة شعوب وليس شعب واحد، لكي لا نطلق كلامنا جزافاً، ولكي تفهم الأجيال الجديدة ما نكتبه، وكي لا ينزلق المطبلون في توجيه تخرصاتهم الرخيصة إلينا بموجب الأوامر العليا التي يصدرها لهم أمراء الحرب.

من الناحية الجيوسياسية والعسكرية تقع شبوة في موقع يجعل من السيطرة عليها عسكرياً أمراً بالغ الأهمية، إذ هي تقسم الجنوب إلى قسمين متباعدين تصعب أي عملية تواصل أو استمرارية الإمداد بين حضرموت والمهرة من جهة وبين أبين وعدن ولحج، وأنها محافظة مرجحة اقتصادياً لاحتوائها على كنوز تاريخية من الآثار للدول والمملكات التي سادت منذ آلاف السنين كقتبان وأوسان وغيرهما، ولاحتوائها أيضاً على الثروات النفطية والغازية والمعدنية بكميات ليست بالقليلة مما يجعل منها (ومعها كل المحافظات الجنوبية) ممتلكة لكل مقومات الدولة القوية وبمواصفات تفوق الكثير من الدول المجاورة.

ربما أن شبوة كمحافظة قد نالت الكثير من التهميش والإقصاء والعبث بثرواتها وحرمانها من التنمية الاقتصادية والتنموية إجمالاً، مقابل فتات كان يلقى للبعض ممن لا يستحق ذكرهم هنا. يكفي أن نعرف أن نظام الهالك علي صالح قد ركز جهده على إذكاء نار الثأرات فغاب الناس عن العمل والدراسة كما حرم أبناءها من الحصول على المنح اللازمة لتمكينهم من العمل في مجال النفط والغاز ووصل الأمر إلى فتح كلية للنفط أتوا بالدارسين فيها من المحافظات الشمالية.

ما دفعني إلى كتابة هذه الورقة هو أن القيادة الجنوبية لم تتعامل مع حركة المقاومة الشبوانية انطلاقاً من المعرفة التفصيلية بخصوصية وظروف المحافظة -وأعتقد مع محافظات أخرى- ومورست عملية تطبيق نفس الطرق والأساليب الثورية التي ربما نجحت في محافظات أخرى. وهذا ما أدّى إلى عدم التمكن من بناء قاعدة مقاومية شبوانية ثابتة وراسخة وذات قاعدة شعبية متنامية رغم نضوج الظروف في المحافظة، مما أدى إلى استخدام تجارب لم يكتب لبعضها النجاح أو حققت نجاحاً ضعيفاً.

سنذكر بإيجاز بعض أهم العوامل التاريخية والمعاصرة، التي شكلت الواقع الشبواني اليوم، التي يجب على القوى السياسية الوطنية الجنوبية أن تضعها في حساباتها السياسية القصيرة والطويلة المدى في وقتنا هذا.

إن شبوة تاريخياً تكونت من خمس سلطنات ومشيخات هي سلطنة العوالق وعاصمتها نصاب، ومشيخة العوالق العليا وعاصمتها الصعيد وسلطنة العوالق السفلى وعاصمتها احور والسلطنة الواحدية وعاصمتها عزان والسلطنة الهبيلية (بيحان)، إضافة إلى مرخة السفلى التي لم تخضع ولم تنضم لا الى السلطنة العولقية ولا السلطنة الهبيلية ولا للملكة المتوكلية اليمنية وظلت مستقلة عن هؤلاء جميعاً.

إن كل هذه المكونات صنعت كانتونات منفصلة عن بعضها اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.

لم تخلوا تلك الفترة من الصراعات القبلية وخلفت ثأرات فيما بين تلك المكونات وساعد الإنكليز والقوى التي كانت ذات مصلحة على تأجيجها بشكل او بآخر.

كل هذه المكونات من المشيخات والسلطنات كانت تعاني الفقر وقلة الإمكانيات وعاشت اساسا على ما تزرعه من منتوجات بالطرق الكلاسيكية في مواسم الأمطار. اضافة لبيع الملح الصخري. لذلك لم يكن بالإمكان ان تحدث اي تنمية تذكر. واعتمد الناس على الهجرة الى الخارج قديما نذكر الهجرة الهلالية الى مصر ودول شمال افريقيا و حديثا نذكر تحديدا المملكة السعودية و في نطاق اقل الى بعض دول الخليج كالكويت والإمارات كحل لوضعهم الاقتصادي شبه الميت، ولا تزال الأغلبية العظمى من سكان شبوة تعتمد على تحويلات المهاجرين الذين ازدادت أعدادهم بمتوالية هندسية وأصبحوا الدينامو المحرك الأساس للتنمية.

تنموياً لم يعرف الأغلبية الكاسحة من سكان شبوة الكهرباء ولا توصيل المياه للمعيشة، وكانوا يستخدمون الوسائل التقليدية للإضاءة ونقل المياه بواسطة الحيوانات، ولم تتغير الأحوال إلاّ من بداية أو منتصف السبعينات لتأتي فترة ما بعد حرب 1994 لتنتكس وتتوقف كل تلك الخدمات.

باستثناء مدرستين بدائيتين في الصعيد وعزان لم يكن هناك أي تعليم، ولم يظهر التعليم إلا بعد الاستقلال، وبثانوية واحدة في عتق تخدم كل المحافظة.

إن شبوة تاريخياً كانت محرومة من التعليم بفروعه الفنية والأساسية والتعليم العالي، ولم تعرفه سوى في بدايات السبعينيات من خلال جامعة عدن أو الابتعاث إلى الخارج الذي كان متاحاً بكل يسر، وبكل صدق نقول إن الوعي المجتمعي في ذلك الوقت -ولا تزال نسبة كبيرة حتى الآن- كان يفضل جني المال عبر الاغتراب، على الذهاب للجامعات للتعليم. وعموما لا يزال التحصيل العلمي إحصائياً أقل بكثير مما يجب أن يكون عليه، أي أقل مما يجب أن يكون عليه.

ككل مجتمع يحتوي على نوعيات مختلفة وبالأصح متفاوتة الوعي من الناس، لذلك فتجربة الحزب الواحد قد استقطبت أناساً مختلفة، وفي أحايين كثيرة متناقضة، لكن أغلبهم اندرج في الحزب لتأمين مصالحه وللدفاع عن كيانه القبلي والعائلي وتأمينه من قبل السلطة ذات اللون الواحد، وليس وعياً منه بفكر أو نظرية سياسية.

كانت التجارب السياسية وبعض تطبيقات النظرية الاشتراكية العلمية -إن صح التعبير- في شبوة في كثير من الحالات متجاوزة للواقع الاجتماعي، وقد وجدت قيادات حزبية في تلك التجارب للأسف وسيلة لتصفية الحسابات القديمة القبلية مع غرمائها وربما يمكن وصف ما حدث بأنه كان تجاوزاً في أحايين كثيرة للواقع المجتمعي وحمل مستويات من التعسف والأفراط العنفي، وهذا ما شجع على تزايد أعداد النازحين إلى البلدان المجاورة وزاد من التحديات أمام الدولة الفتية.

للإنصاف فإن بعض التجارب قد حققت نجاحاً مباشراً وغير مباشر، وخصوصاً في مجال تعليم الفتيات والقضاء على الأمية وفتح المجال للشباب للالتحاق بالسلك الأمني والكليات العسكرية، وكان لذلك الأثر في نقل المجتمع ككل ولا سيما سكان الأرياف، خطوات للأمام في طريق التحضّر.

كل ما ذكرناه خلق فسيفساء اجتماعية وسياسية ضعيفة ومشوهة ورخوة ساعدت الأعداء على السيطرة على شبوة وما عليها.

ختاماً وللإيجاز نقول، ستظل هذه المحافظة ملطشة للقاصي والداني طالما أن تفكيرنا في شبوة يتم بصورة (أنا) وليس (نحن)، وعندما تفكر شبوة بصيغة نحن سنضمن حقوقنا وحقوق أبنائنا، وطبعا أنا لا أقول أن ننسلخ من جذورنا وقبائلنا أبداً، بل نقول علينا نحن أولاً أن نوجد صيغة تفاهمات تجعلنا نقف مع الجميع في صف واحد للمطالبة بحقوقنا التي ينهبها السرق وبلهاء السياسيين وأشباه الرجال.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى