مثقفون عرب يتعاملون مع تراثهم بالقفازات والكمامات

> حكيم مرزوقي

> يواجه التراث الثقافي اللامادي العربي انتهاكًا مزدوجًا، الأول من قبل العامة ممن يجهلون أهمية تراثهم اللامادي وتأثيره وضرورة الحفاظ عليه، أما الانتهاك الثاني فهو نظرة الاستعلاء التي يوجهها الكثير من المثقفين العرب إلى التراث اللامادي لشعوبهم، معتبرين أنه مجرد فولكلور ومصيره إلى زوال، بينما يأتي التقدير العالمي للتراث الثقافي اللامادي للشعوب العربية بشكل سنوي تقريبًا، في دلالة على ثراء المنطقة العربية بإرث ثقافي وحضاري كبيرين.

عدم تطور وتغلغل الأبحاث الأنثروبولوجية في العالم العربي جعل المنشغلين بالفكر والثقافة يشيحون بوجوههم ويديرون ظهورهم لهذا الكم الهائل من التراث اللامادي المتنوع على امتداد المنطقة العربية.
غالبية المثقفين لدينا لا يهتمون إلا بالمعروف والملمّع والمعروض على الواجهات الرسمية لتاريخ بلدانهم في نظرة أقرب إلى "السياحية" ظنا منهم أن تراث الشعوب لا تعكسه إلا الأوابد والأحجار، وما خط في الكتب والأسفار.

تعالي النخب
هذه النظرة الاستعلائية وهذا التجاهل المقصود، أو غير المقصود، تسببا في ضياع إرث ثقافي عظيم، أما الذين "استفاقوا متأخرا" فيندبون حظهم العاثر، ويعزفون على وتر المظلومية التاريخية بالقول إنهم مغيبون عن لوائح المنظمة الأممية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو).
الحقيقة لا تقول ذلك، فها هو أكثر من فن عربي تحتويه قائمة تم ضبطها من طرف لجان اليونسكو في باريس كنوع من أرقى أشكال الاعتراف والتقدير، وذلك أسوة بغيرنا من الشعوب.

الأجدر أن يقود حملات التنبيه والتحسيس مثقفو البلد المحليون وليس جهات أجنبية لم تقصر بدورها، فالقائمة التي أعلنتها المنظمة الأممية للطلبات التي تم قبولها كموروث إنساني جدير بالحفظ والصون هذا العام، ويجب ألا يختفي من فوق البسيطة، لا تضم مثلا صناعة الزوارق التقليدية في أرخبيل ميكرونيزيا، وحدها، أو النسيج التقليدي في تيمور الشرقية أو فن الرومبا في دولة الكونغو أو الغناء والرقص على الطبل بالدنمارك بل تضم أيضا -وبالخط العريض- الخط العربي على مختلف أشكاله، و "لفجري" كنوع غنائي لدولة البحرين، وصناعة "الناعور" العراقي، وفن التطريز الفلسطيني، وفن القدود الحلبية، و "التتبوريدة" لفن الخيالة بالمغرب الأقصى.

وسبق لهذه القائمة التي ما تنفك تكبر وتتسع كل عام أن احتفت بشتى الممارسات والنشاطات الضاربة في القدم على امتداد مساحة العالم العربي الذي كان مهدا ومسرحا لعدة حضارات تفاعلت فيها ثقافات عديدة.

اليونسكو اعتمدت تصنيفا سباعيّا لمجالات التراث الثقافي اللامادّي، فلم تغب المنطقة العربية عن أي جدول من جداول هذا التصنيف الذي ضم التقاليد الشفويّة وأشكال التعبير الشفويّ بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن التراث الثقافيّ اللامادي، والفنون وتقاليد أداء العروض، والممارسات الاجتماعيّة والطقوس والاحتفالات الثقافة الغذائية التقليدية، والألعاب الشعبيّة التراثيّة، والمعارف والممارسات المتّصلة بالطّبيعة والكون، بالإضافة إلى المهارات المرتبطة بالحرف التقليديّة.

بات من الواضح، ومن خلال الحضور الدائم للتراث اللامادي العربي على قوائم المنظمة المعنية، أن هذا التكريم جاء عن جدارة واستحقاق، ولم يبخس العرب حقهم إلا في بعض حالات السطو المتعمد من طرف دول مثل إسرائيل وإيران وتركيا في ما يتعلق ببعض الأطباق المطبخية أو الفنون الزخرفية والموسيقية، لكن ذلك قد يبرر بحكم المجاورة والمصاهرة وتداخل التاريخ والجغرافيا.

أما الإشكال الذي ينبغي الإشارة إليه والتركيز عليه في النظرة العربية الرسمية منها والشعبية، للتراث اللامادي، فهو الاستهتار الناتج عن اللامبالاة ونظرة الاستخفاف لهذا الإرث الهائل الذي يعيش بيننا ونتنفسه كل يوم، ثم يختفي باختفاء أصحابه، فنكتفي بالترحم عليه أو تذكره على سبيل الحنين، مجرد الحنين.

يتأتى هذا الاستهتار وعدم الاكتراث من عوامل وأسباب عديدة أهمها عدم تثمين هذا التراث عن علم أو جهالة، ذلك أن البسطاء لا يدركون حقيقة قيمته بحكم عدم اطلاعهم على تقدير الأمم الأخرى لتراثها، وتعلقهم بهذه المهنة أو هذه الهواية إنما جاء على سبيل الاسترزاق المادي أو التسلية العابرة. ولعب النزوح من الريف إلى المدينة دورا كبيرا وحاسما في اختفاء عدة فنون وطرق عيش تقليدية، بالإضافة إلى دخول الآلة واستلائها ومصادرتها للعديد من الأنشطة البشرية التي كانت تمارس بإتقان وتفان كبيرين.

أما العامل الأكثر وحشة في اختفاء العديد من النشاطات البشرية المصنفة كتراث لامادي، فهو استعلاء النخب المثقفة على المشهد، واعتباره مجرد ممارسة فولكلورية أملتها الحاجة الظرفية وستزول بزوال أسبابها.

الاحتفاء بالتراث
إنّ لاماديّة هذا الصنف من التراث -كما يرى الباحث التونسي عماد صولة- لا تعني أنّه تجريدات مخياليّة أو في أفضل الأحوال حطام ثقافة آيلة إلى زوال، ذلك أنّه كثيرا ما يكون مشيّئا في أشكال ملموسة كالأطعمة والأزياء والحرف التقليدية، وإنّما يحمل روحا ليست في جوهرها سوى روح الجماعة التي أنتجته وذاكرتها المشتركة التي آوته ومرّرته عبر الأجيال.

ويسترسل صولة مستدركا في هذا السياق "على أنّ هذه الذاكرة لا ترتهن إلى الماضي، وإن استمدّت منه محتوياتها الرمزيّة، بل إنّها تعيد بناءه باستمرار بما يتوافق مع شروط الظرفيات التاريخيّة المندرجة فيها حاضرا ومستقلا".
ويعود هذا الاستهتار بالتراث اللامادي في العالم العربي إلى نوع من "الجهل المعرفي" لدى نخب عريضة في مجتمعاتنا تحسب على الثقافة، وغير مطلعة على أحدث الأبحاث الأنثروبولوجية المتعلقة بالموضوع، فهي لا تعلم ولا تقدر القيمة الرمزية ولا المحتوى المعرفي الذي تلخصه رقصة أو معزوفة أو طبق من الأكل الشعبي.

حرب الطعام مثلا، تدور رحاها منذ سنوات طويلة، وتحمل في طياتها دلالات كثيرة تشي بثقافات مختلفة، ورغبة في التزعم الإقليمي أو فلنسمها "وطنية فائضة عن اللزوم"، كما هو الحال في حرب الشاورما بين اليونان وتركيا، أو الفلافل بين سوريا وإسرائيل أو كذلك منقوشة الزعتر لدى اللبنانيين أو الحلوى النابلسية عند الفلسطينيين التي يريد الإسرائيليون أن يفتكوها منهم.

وقس على ذلك في صناعة الملابس والمشروبات والرقصات والمطوعات الموسيقية بل وحتى الشعائر الدينية التي لم تعد مجرد طقوس تعبدية بقدر ما هي تراث فولكلوري ثقافي؛ ذلك أن ألمانيا مثلا تحتفي بمارتن لوثر، ليس كراهب قسيس بل كألماني قدم ترجمة خاصة به للكتاب المقدس بلغته المحليّة بدلاً من اللغة اللاتينيّة التي كانت اللغة الوحيدة التي سمحت الكنيسة الرومانية باستخدامها لقراءة الكتاب المقدس.

الأمثلة في هذا المجال عديدة ولا تنتهي إلا بانتهاء الإنسان صانع الحضارة وعدوها في نفس الوقت، وما الاحتفاء بالتراث اللامادي إلا تأكيد على خصوصية الثقافة الشفهية وارتباطها بالحياة اليومية قبل أن تمسي مدونات مكتوبة ومؤرشفة بطريقة تقليدية أو رقمية، ذلك أن المهارات ينبغي أن تبقى حية تتنفس وتعيش مع أصحابها مثل جماليات الخط العربي الذي يعد من أرقها وأعذبها في العالم. وليس من الذكاء أن يدعي متشاطر منا أن الخطوطية العربية قد اضمحلت واختفت مع ظهور الكتابة بالأزرار في العصر الرقمي.

جميع المعاهد التراثية والمؤسسات المتخصصة في العالم توصي اليوم بنوع من الجرد التشاركيّ الذي يتحقّق على قاعدة التعاون بين الباحثين والخبراء والمختصّين في المجال من جهة، والمجتمع المحلّي ممثّلا في تشكيلاته المختلفة من جهة أخرى.

كاتب تونسي - العرب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى