من الفارابي إلى جون لوك.. للانفتاح البريطاني جذور عربية

> حسن إسميك:

>
  • الاستعمار البريطاني لعدد من الدول العربية ساعد في إشاعة الانفتاح
ينظر الكثيرون إلى بريطانيا على أنها الدولة الأوروبية الأقرب إلى العرب، والأكثر اطّلاعًا على شؤونهم وهو الأمر الذي يربطونه بالعديد من العوامل وفي مقدمتها التأثر بأفكار فلاسفة عرب.

أن تحمل دولة ما لقب “العظمى” أمر لا يمكن أن يأتي من فراغ، ولا من حصيلة مجموعة من الأحداث (المحلية والإقليمية) التي سجلها التاريخ في رصيدها؛ بل لا بدَّ وأن يحمل هذا اللّقب معاني ودلالات أعمق وأدق وأبعد، مرتبطة ببصمة عالمية خاصة، ومبنية على تجربة إنسانية فريدة، وفهم واسع لحاجات هذا العالم شديد التنوّع، وعلى استيعاب عميق لاختلافه، وأسلوب متجدد مبتكر للتعامل مع قضاياه ومشكلاته.

تساعدنا هذه الحقيقة - قليلة المفردات عميقة الأثر- في فهم السبب الذي جعلَ بريطانيا الدولة الأوروبية الأقرب إلى العرب، والأكثر اطّلاعًا على شؤونهم وإدراك دينامياتها ومفاعيلها، أحيانًا أكثر من العرب أنفسهم. وتدفعنا هذه الحقيقة في الوقت نفسه إلى البحث في أسباب أخرى أكثر دقة ترتبط بطبيعة السياسة البريطانية ذاتها، وبالفلسفة التي تشكلّ أساسها، والمبادئ التي تقودها، والتي جعلت منها يومًا “إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس” بقوة الاقتصاد والسياسة والمعرفة والتنوير.

الحفاظ على هوية المستعمرات
المشاركة البريطانية في احتلال العراق عام 2003 رسَّخت القناعة لدى بريطانيا بعدم جدوى استخدام القوة العسكرية

لم تلجأ بريطانيا إلى محاولة تغيير البنى الثقافية في البلدان العربية التي احتلتها، بذات الطريقة التي اعتمدتها قوى أخرى، حيث حاولت هذه القوى إلغاء هويات الشعوب الواقعة تحت نيرها. فالمملكة المتحدة لم تحاول محو الدول بل إعادة تشكيلها، وبما يخدم مصالح التاج طبعًا، لكن أيضًا بما يضمن للتاج الإنجليزي أن يحافظ على الأصدقاء على المدى الطويل، حتى في حال انتهاء الانتداب أو الاحتلال.

ولو عدنا قليلًا إلى أساس فلسفة السياسة البريطانية، القائمة في جزء كبير منها على أفكار الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، الذي يوصف من قبل الكثيرين بأنه “أعظم فلاسفة العصر أثرًا”، والذي نادى بثورة سلمية وعصر يسوده الاعتدال والتسامح، نستطيع استشفاف ميزات الأسلوب والمنهج الإنجليزي في التعاطي مع الشؤون والبلدان العربية، والتي تُذكرنا إلى حد بعيد بمبادئ نادى بها فيلسوف عربي مسلم، لقيَ ما لقيه لوك من المعارضة والتكفير، هو الفيلسوف أبو نصر الفارابي؛ مؤلف الكتاب الشهير “آراء أهل المدينة الفاضلة”، والذي يعد من أهم نتاجات الفكر السياسي خلال المرحلة الوسيطة، وفيه أكّد الفارابي على ضرورة التسامح وأهميته لقيام مجتمع الدولة، وعلى هذا سيوافقه جون لوك بعد العشرات من السنوات في كتابه “رسالة في التسامح”، ناهيك عن المقاربة الواقعية العقلانية لموضوع “المدينة الفاضلة”، فهي ليست خيالية كتلك التي تحدَّث عنها أفلاطون، بل واقعية تنطلق من فكرة أن “البشر على تنافرهم، محتاجون إلى التعاون والاجتماع”.

تشير مصادر مختلفة إلى أن الفارابي وضع أكثر من مئة وعشرين كتابًا، في المنطق وما وراء الطبيعة والسياسة والاجتماع، عُثر على ستة عشر عملًا من أعماله، أما الكتب المتبقية فهي متفرقة في مكتبات أوروبا، وربما هذا ما يفسّر وجود تشابه بين أفكاره وأفكار عدد من أهم العقول الإنجليزية بواكير المرحلة الحديثة، أمثال لوك وهوبز، لاسيما إذا ما عرفنا أن أعمال الفارابي قد تُرجمت في القرن الثالث عشر إلى اللغة اللاتينية، والتي كانت آنذاك لغة العلم والمعرفة، وطبعت في باريس سنة (1638م)، فكان لها أثر فلسفي عظيم على أوروبا، خصص له المستشرق الألماني اشتين شنيدر مجلدًا ضخمًا.

جذور عربية
يحدد الفارابي غاية الفلسفة السّياسيّة بأنّها أخلاقيّة في المقام الأوّل، من هنا كانت المهمّة الرّئيسة للعلم المدني هي مهمّة البحث عن كلّ الأفعال الحسنة كالخير والفضيلة. ويولي الفارابي الاجتماع المدني أهمية كبيرة باعتباره السبيل الموصل إلى السعادة، هذه السعادة لا تتأتى بين الأمم إلا بالتفاهم والتسامح، وتلك هي مهمة الفلسفة عند الفيلسوف أو الحاكم أو الإمام، وبذلك تكون الفلسفة عاملًا موحّدًا ومشتركًا بين الأمم.

من ناحية أخرى نجد أن الفارابي كان قد أكدّ أنه “كما تترتب أجزاء الجسم الواحد وتخضع لرئيس واحد هو القلب، هكذا يجب أن يكون الحال في المدينة”، فالرئيس أول العناصر، ولا وجود للاجتماع المدني، المبني على أسس أخلاقيّة فضائليّة، من غير الرّئيس الذي بواسطته يتمّ تنظيم المجتمـع تنظيمـًا مثاليًا مماثلًا للتّنظيم الكـوني الذي يربط جميع موجودات العالم بالله، وعليه فالرئيس هو تعلّة وجود المدينة الفاضلة، ووجوده سابق على وجودها ذاتها، هذه الفكرة سنجدها تمامًا لدى هوبز؛ الذي نادى بالسلطة المطلقة للحاكم، والمستمدة من القناعة الكاملة بأن وجوده هو الذي يفصل بين المجتمع المدني وحالة الطبيعة أو الفوضى، فالخير فيما يراه الحاكم والشر كذلك، والحكم المطلق هو أساس العدل والمساواة.

غير بعيد عن هوبز وعصره.. وفي سياق فكري وسياسي متمايز، كانت رسالة لوك في التسامح، والتي نشرت 1689 أحد أهم مداخل عصر التنوير الأوروبي، وبخاصة اتجاهه “الإنساني” الذي يقول بأسبقية العقلانية على اللاهوت والغيبيات، إذ تستند “رسالة” لوك إلى حرية المعتقد والأديان، ويرى فيها أنه ليس من حق أحد أن يقتحم باسم الدين، الحقوق المدنية والأمور الدنيوية، وأنه ليس لأي إنسان السلطة في أن يفرض على إنسان آخر ما يجب عليه أن يؤمن به أو أن يفعله لأجل نجاة روحه هو، لأن هذه المسألة شأن خاص، وحرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان. وكما أن الهدف من الحكم عند الفارابي هو تحقيق السعادة في الدولة والعالم، نجد أن دعوة التسامح لدى لوك تتخذ طابعًا عالميًّا هي أيضًا، فيتحدث عن قيم عالمية تجمع بين أهل المعمورة كافة (جميع الدول)، بغض النظر عن اختلافاتهم بالجنس أو العرق أو الدين أو اللغة، فهم محتاجون إلى التعاون والاجتماع بمفاعيل المحبة والتسامح.

ويبدو أن هذه الدولة التنويرية المتسامحة، قد تجسدت في الإمبراطورية الإنجليزية العظمى التي استطاعت أن تسيطر على 90 في المئة من العالم، بالحد الأدنى من سفك الدماء، وبالكثير من محاولات إجراء تغييرات حقيقية في أنماط الحكم في البلدان المُسيطر عليها، وحتى بعد انفصال المستعمرات عنها، حين عمدت إلى تأسيس اتحاد يضمها (الكومنولث) والذي تستند العضوية فيه على التزام مشترك بالقيم بما في ذلك الحرية وحقوق الإنسان والتجارة والحكم الرشيد.

وبالعودة إلى صورة بريطانيا، ينظر الكثيرون إلى الاحتلال على أنه شرّ مطلق، ومع أنني أؤكد أنه لا يمكن اعتبار الاحتلال أمرًا جيّدًا، خاصة بالنسبة إلينا نحن العرب، لكنني أيضًا آخذ بالحسبان أهمية النظر إلى النتائج بمعزل عن الأسباب، لذلك أجد في التجربة البريطانية ومستعمراتها، واستنادًا إلى ما سبق وذكره عن فلسفتها، نقاطًا تستحق الوقوف عندها، ففي مصر على سبيل المثال ساعد الاحتلال البريطاني على إشاعة جوّ من الانفتاح كَفِل لأفكار محمد عبده وتلامذته الحماية من اضطهاد بعض المؤسسات. وشكلّت مرحلة الاحتلال الأولى (1881-1919) بداية انفتاح المصريين على التجربة الليبرالية في الغرب، وازدهرت المعارف والترجمة وظهرت الصحف والمجلات، ونشأ في هذا الجوّ جلّ الأدباء والمفكرين الذين قادوا حركة التنوير العربية فيما بعد.

نفوذ مستمر
لكن، حين ظهرت حركات الاستقلال، حملت رفضًا لكل ما نتج عن الاحتلال، غثّه وسمينه، واتبعت أساليب متعسفة في القضاء على كل أثر للاستعمار انطلاقًا من اعتباره “شرًّا مطلقًا”، فكان أن خسرت الأجيال اللاحقة هذا الانفتاح، بل ومهدّ ذلك لظهور ثغرة استطاعت الأنظمة الاشتراكية والتيارات الدينية المتطرفة النفاذ منها إلى المجتمعات العربية، فأوجدت أوضاعًا ما زلنا نعيشها نتيجة سنوات من محاربة فرصة أتيحت لنا يومًا للاستفادة من تجربة وخبرة محتلّ، رفضنا أن نرى فيه سوى وجه “العدو”.

لكنّ غياب شمس الإمبراطورية لا يجب بأي حال من الأحوال أن يعني غياب دورها، وأعتقد أن المملكة البريطانية تعي هذا جيّدًا، وعلى الرغم من كلّ المخاوف التي برزت بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي والمتعلقة باحتمال تراجع دورها العالمي، نجد أنها على العكس قد بدأت بخطوات جديدة فردية في المنطقة العربية، ستعزز بها من جديد الروابط القديمة مع الشعوب العربية.

ومن جانب آخر، فأغلب الظن أن المشاركة البريطانية في احتلال العراق عام 2003 قد رسخّت القناعة لدى المملكة بعدم جدوى استخدام القوة العسكرية في هذه المرحلة من تاريخ العالم، وبأن رسالتها التنويرية تتطلب التركيز على الشراكة الاقتصادية والصداقة والسلام وتمكين الشعوب العربية، كي تصبح شريكًا فاعلًا في محاربة الإرهاب الذي تعاني من خطره الدول الأوروبية كما تعاني منه شعوب الشرق.

إنّ للتاريخ البريطاني في المنطقة أثرًا لا يمكن محوه أو تجاهله، وللبريطانيين خبرة في أساليب الحكم العربية بنتها الآلاف من حالات التجربة والتقارب، ومكنتهم من لعب دور حاسم في رسم وتشكيل خارطة المنطقة، ما يضع على عاتقها أعباء ومسؤوليات إنسانية وتاريخية في المرحلة الحالية والمقبلة كقوة أوروبية مستقلة، كبيرة ومؤثرة ومعتدلة، غير منتدِبة ولا مستعمِرة، بل صديقة وشريكة في بناء التسامح سواء أكان من وجهة نظر الفارابي أم جون لوك، فالنتيجة واحدة: الأمن والسلام في العالم.

"العرب"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى