على خلفية سقوط ريان في الجب

> اللحظات الفارقة في الاعلام حين يصعد الإعلام عتبة مرتفعة تخرجه من وضع أولي إلى مرتق جديد.

كان المذياع الصغير (ترانزستور) أكثر من أداة ناجعة في أوروبا بين الحربين العالميتين، وارتفع كعب الصحافة الورقية -ولا غير الورقية حينها- و برز مراسلوها من أرض المعارك.

في الأثناء كان الريف اليمني يسترق السمع عن نطق الحديد وتقريبه للبعيد كواحدة من علامات الساعة.

أما عدن فقد بدأ عصر الراديو أثناء الحرب الثانية العظمى بالاستماع إلى نشرات الأخبار من لندن الإدارة البريطانية وتحت سمعها والبصر تلاوة عبر ميكرفونات متفرقة كان أبرز نجوم القراءة الوجيه العدني عبدالله حاتم -رحمه الله- وليس بالمصادفة وحدها أن يختار وجيه عدني آخر هو الأستاذ محمد علي لقمان -رحمه الله- مطلع الأربعينيات الملتهبة مناسبة لإصداره (فتاة الجزيرة) أول صحيفة بمقاييس العصر تصدر في عدن.

وعلى ذمة حكاوينا البيتية التي انعشت عقولنا المتفتحة صغارا من كبيرات البيت أن جدي السيد محمد زين السقاف عاد مهمومًا من عمله في الحوطة المحروسة بعد أن سمع من صنوه وصديقه السيد الوجيه حسن علوي الجفري العائد توا من مدينة الضباب (لندن) ليخبره عن الكائن الأسطوري الصغير الذي يحمل إليك رأي العين أناسا بكامل هيئاتهم يتكلمون ويسرحون ويمرحون في المساحة الفضية الصغيرة إلى داخل بيتك، ولعل جدي قد قال في نفسه: رضينا بالحديد الناطق المستور عن العين حتى يأتينا الحديد المبصر إلى داخل البيوت.

هذا الجهاز الترانزستور الصغير حليف بشار صاحب القول الشعري الأثير:

يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة

والأذن تعشق قبل العين أحيانا

سيكون سببا في اتساع رقعة الثورة العربية التحررية بقيادة الزعيم الخالد جمال عبدالناصر ويكون لخطاباته النارية صدى جماهيريا تعبويا مؤثرًا من الماء العربي إلى الماء من طنجة إلى المنامة ومن حلب إلى عدن.

في زيارة ناصر لتعز في العام 1964م وأثناء إلقائه لخطاب شهير فلم يكد ينهي العبارة: (على بريطانيا أن تحمل عصاها وترحل عن الجنوب العربي) حتى انفجرت قنبلة في عدن.

وهكذا غدا المذياع الصغير يسحر قلوب الجنوبيين المتعطشين لسماع خطابات عبدالناصر، وواحد منهم تجشم عناء السفر إلى عدن ليشتري ذلك المذياع العروبي الثوري الساحر ولكن مؤشر القنوات جاء على (أورشليم القدس) فبهت الرجل وكسر المذياع بينما الأمر لا يتطلب منه سوى تحريك المؤشر إلى (صوت العرب) ليسمع صوت عبدالناصر أو على الأقل صوت أحمد سعيد.

ويرتقي الصندوق الفضي الصغير بتقنية الأبيض والأسود مصطبة أعلى عندما شاهد الناس مباشرة من لوس انجلس عملية اغتيال الرئيس الأمريكي جون كيندي عام 1963م وأصبح التلفزيون ضيفا محببا في كل بيت.

أما السطوة الجبارة فقد أتت بالصورة الملونة المباشرة من cnn أثناء حرب تحرير الكويت والتي أدخلت تفاصيل المعارك أولا بأول حتى إلى داخل مطبخ المرأة الهندية على سبيل الاستعارة

لقد صغرت المسافات حقا بين بيونس أيرز في جنوب الأرض و هلسنكي في شمالها، وقلنا إن العالم قرية صغيرة.

وحتى الآن الأمر ممتع في نطاق الكليات الإنسانية الجامعة بتفاصيل المفردات الصغيرة التي تجوب فضاءاتنا الإعلامية، ثم في الاتجاه نفسه، وبحدس مستبصر يستطيع الأستاذان هشام وتمام باشراحيل -للأول الرحمة وللثاني الصحة وطول البقاء- اغتنام فرصة الحدث الأبرز مطلع الألفية الحالية، أحداث الـ 11 من سبتمبر 2001م ليجعلا من "الأيام" زائرًا صباحيًا يوميًا مرحبًا به.

إن أشياء من هذا القبيل تواترت إلى ذهني دون استئذان وأنا أتابع مساحة التغطية المرئية المباشرة التي حظيت بها محاولة إنقاذ الطفل المغربي ريان -رحمة الله واسعة عليه- مذ تعثره ليسقط في هوة سحيقة تحت الأرض يوم الأول من فبراير الحالي.

إن الإعلام صناعة حاذقة تستطيع تغيير أبجديات حياتنا إن للأفضل أو للأسوأ في بعض الأحيان.

فتقنيات اليوم وما بعدها هي أسرع من التقاط أنفاسنا وهي تسجل حضورها من داخل التاريخ أو حتى من خارجه، فاليوم العالم ليس قرية صغيرة ولا عمارة واحدة ولا حتى شقة واحدة، نحن اليوم مكدسون في غرفة واحدة تعملنا التقنية الوسائطية الجديدة دون تفريق بين رجل وامرأة شاب وشائب صغير وكبير متعلم وأمي مثقف وجاهل، فالفضاء الإعلامي مفتوح وما سيأتي أعظم، رحم الله جدي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى